عائشة ــ راشد ــ حمد.. عاديّون أعمالهم غير عادية
.. جميلٌ أن تسمع كلماتٍ في مشاريع المحبة الإنسانية. والأجملُ، أن ترى هذه الكلماتِ تتسابق على مضمار الواقع.
1 - راشد:
قليلاً ما أرى رجلا في صباحةِ وجه راشد، رجل في أواسط الأربعينيات، بعينين بلون سواد العنب الممزوج مع لون العسل الجبلي العابق، ببشرةٍ أقرب للقطن المشرَّب برشّات حمراء تجول على صفحاتِ الوجه، وشعرٌ شاب مبكرا فصار فضيّا لمّاعا تغرق في لمعانه بعض الشعيرات السوداء المناضلة. وأضفت هالة من الطاقة المنسابة شلالا هادئا حوله حُسناً وراحةً فوق جمال. هاتفني راشد من جدة، وأصر على أن نلتقي، وقال لي مازحا: ''ما تبغى تدفع ثمن تذكرة؟.. يا بخيل!''. وطرتُ لجدة لا أدري ألتأثير راشد عليّ؟ أم لأثبتَ له أني لست بخيلا كما يظن. وجدته في المطار بقامته الثابتة الهزيلة، وبلباسٍ رياضي يشي عن عضلات كانت للاعب محترف. أصرّ راشد على أن نذهب لمنزله، وكان بيتا صغيرا متواضعا جدرانه مرصعة بصور فريق كان من زمنٍ يلعب فيه. راشد كان مهتما بمرضى الرحمة ''السرطان'' من الأطفال، ويريد أن يعمل لهم شيئا، لذا أراد أن نتبادل الرأي. رأينا أن نخصص صندوقا ماليّا للنشاط، وبدأنا باقتراح منه يستخدم راشد علاقاته مع اللاعبين المحترفين، وذهبت معه في أول زيارة، وكان شرطه ألا ينقل الحدثَ صحافيا ولا ينوه عن اسمه ''اسمه هنا مستعار''. ثم أني رأيتُ شيئاً آخر في راشد وهو أن لديه ملكة إلقاء القصص والحكايات وألعاب يدوية سحرية يجيدها، فاقترحت عليه أن يكون هذا من ضمن نشاطاته لإسعاد الأطفال، فصار يذهب لبيت كل طفل أو طفلة مريضة ويروي القصص ويفاجئهم بقدرته بألعابٍ يدوية سحرية، فسقط مع المدة الاقتراح الرئيس وهو زيارة اللاعبين، وعشقَ الأطفالُ قصصَ ''عمو راشد''، ثم صار يتجمع أطفالُ كلِّ عائلة فتزدادُ فرحة الطفلة والطفل المريض بتجمعهم.. ولا يخرج راشد إلا وقد ضمّوه واحدا واحدا، وكثيرا ما قبّل رأسَه الآباءُ، ومن المعتاد أن يضموه وهو يخرج مع نفضاتِ بكاء. هاتفني ابنه قبل أسابيع وقال: ''الوالد حالته حرجة، هل تستطيع أن تأتي؟''. وزرته في المستشفى، وكانت حالته تذيب قلبَ الجبل الحجر.. تعانقنا وبكينا. وسرَّ في إذني: ''الأطفالُ بيحبونّي.. كتير''. وأنهرتُ بكاءً. بعد يومين هاتفني ابنه مرة ثانية بأن أباه انتقل إلى رحاب الله. ولم أعلم طيلة المدة أن حبيبي ومعلمي الإنسان البالغ الجمال، صاحب القلب الذي بصفاء السماء.. كان نفسه مريضا بمرض الرحمة. اللهم ارفعه لمصاف المؤمنين المصطفين.. آمين.
2 - حمد:
هاتفني الشاب حمد علي الشنيفي من شباب الرياض وهو مصرفي، وعرض عليّ فكرة يقوم وينام عليها، وشغلته عن أي شيء آخر. لقد أخذ بلُبِّه المشروع المنتشر في الولايات المتحدة وبعض دول العالم بعنوان: ''نحقّق أمنيتك''. وهو مشروعٌ بارعُ التأثيرِ لزرع السعادة الكبرى في قلوب الأطفال المصابين بمرض الرحمة، خصوصا ذوي الحالات المتأخرة. ''حمد'' لم يدّعِ أنها ابتداعه ولا نسب أنها فكرته، ولكنها أصابت عين الهدف بقلبه الطيب، وراجعها بجدية عقل مصرفي، لهدفٍ إنساني كبير يعطيك دليلا عميقا على عظمة شبابنا وقدرتهم التي أحيانا، لا، بل كثيرا ما تتعدى تصوراتنا، وقرر أن يؤسس وينفّذ المشروعَ لأطفالنا المرضى بمرض الرحمة، وليثبت فعلا علاقة المرض مع الرحمة الربانية التي ندركها من خلال أشخاص يحملون الرحمة في بنيةِ وجودهم مثل الحبيب حمد. لم ننتهِ بعد.. لا أدري لم هاتفني حمد علي الشنيفي؟ فباستطاعته أن يمضي وحده لنهاية الطريق، أوه! آسف ليس لطريق حمد نهاية، إنما بداية واثقة وجيّدة التجهيز. فحمد عنده المصادر المالية وآلية العمل، وكيفية تحقيق أمنية كل طفلٍ وطفلة.. بالنسبة لي، كلّمني فأكرمني. وهو ينتظر أن يجلس معي لبدء إطلاق المشروع، وأنا الذي أتأخر عن الاجتماع بأعذار.. وهنا الفرق بين العاملين الحقيقيين، والضعاف مثلي، وأسأل الله أن يصلح من حالي.. أما بالنسبة للحبيب حمد، فهو يحسن الظنّ كثيرا، فلحرصه الدقيق أن يثمر المشروع اعتقد أني أفيده في وضع تخوم المسار كي لا يزل عن كتف الطريق.. لم أصرح لحمد أني لا أصلح وأنه أفضل مني بمراحل، ولكن سأجلس معه أول الأسبوع لأتعلم منه ولأقتدي به فهو مثل حامل المسك، لن أخرج منه إلا بعبق الرضا بأية حال.
3 - عائشة:
لكم ترنمتُ بعشق أهل الأحساء وبجمال ما يعملون، وهم يساعدونني من غير قصدٍ وبأدلةٍ شاهقة على ذلك. السيدة عائشة الراشد ليست من متبهرجي الإعلام ولا يهمها أن يراها الناس، ويهمها جدا أن يراها من بنى الأرضَ والسماء.. وخلق فيها هذا القلبَ الذي يدق بالإنسانية وللإنسانية. صرحت لطيفة العفالق رئيسة جمعية ''فتاة الأحساء'' عن تبرع عائشة الراشد بمبلغ 21 مليون ريال لبناء مشروع متكامل في الأحساء، كمقر جديد لليتيمات ورعايتهن أطلق عليه اسم ''شمل''، وتكفلت الراشد بتجهيز المشروع بأحدث الأثاث والأجهزة اللازمة. أفخَرُ جداً بالسيدة عائشة، مهما بلغت الثروات فمن النادر التبرع من شخص، وحيد، بحجم هذا المبلغ ويلتزم به في الحال. عائشة: يا بختك، كم الثروة التي تنتظرك ــ إن شاء الله ــ في الجنة؟
أجمل العقود..عقودٌ مع الله.