في دائرة التعليم العالي
في هذا اليوم سأخالف عادتي في التركيز على موضوع واحد، سأتناول موضوعات متعددة ولكنها تدور في فلك ''التعليم العالي''، وذلك من خلال استعراض قضايا ملحة ومهمة تستحق التوقف والنظر، لاتصالها بمستقبل التعليم العالي من جهة، وارتباطها بالتنمية وخدمة المجتمع السعودي من جهة أخرى.
ــــ أشار تقرير صادر عن وزارة التعليم العالي قبل أسابيع إلى أن عدد الكليات في الجامعات الناشئة يفوق عدد الكليات في الجامعات العريقة، فقد جاءت في الصدارة جامعة الملك خالد بواقع 41 كلية، وتلتها جامعة الملك عبد العزيز بواقع 37 كلية، ثم جاءت بعد ذلك جامعة القصيم بواقع 31 كلية.. إلخ، وهذا يأتي عكس المتوقع! أعتقد أن خدمة المجتمع السعودي وتحقيق أولوياته الوطنية تكمن في تشجيع الجامعات الناشئة على التركيز على تخصصات معينة تخدم المنطقة التي تقع بها الجامعة في الدرجة أولى وتكون مكملة لمنظومة الجامعات، وليس بالضرورة صورة كربونية للجامعات الأخرى. باختصار ينبغي أن تُولي الجامعات الناشئة اهتمامها لتخصصات محددة تكسبها شخصية مميزة دون الحاجة للتوسع غير المبرر، خاصة مع ندرة أعضاء هيئة التدريس وضعف البنية التحتية، ومن ثم الخشية من تدني مخرجات بعض هذه الجامعات!
ــــ وفي السياق نفسه، تتسابق الجامعات الناشئة مع الجامعات الأقدم ''أي غير الناشئة'' لإنجاز أنشطة علمية متماثلة، وأعتقد أن المصلحة ليست في أن تكون الجامعات نسخة من بعضها كما أشرت آنفاً، بل لا بد من إيجاد البيئة المحفزة لتميز الجامعات في مجالات تخدم التنمية دون محاولة كل جامعة تقليد الجامعة الأخرى. فبعض الجامعات ينبغي أن يكون تركيزها بحثياً وبعضها الآخر تعليمياً، كما ينبغي أن يركز بعضها على الطاقة والتقنية، وبعضها على الزراعة والمياه، وبعضها الآخر على البيئة والتنمية المستدامة وهكذا. وربما يتقاطع هذا المقترح مع اقتراح الزميل الدكتور البعيز بضرورة تصنيف الجامعات السعودية وترتيبها وفق معايير ومؤشرات للتميز ''وأضيف'' حسب التخصصات المختلفة.
ــــ تعاني الجامعات عموماً من اللوائح ''المكبلة'' التي تعوق أنشطتها خاصة في مجال البحث العلمي واستقطاب المميزين من الباحثين وأعضاء هيئة التدريس والموظفين، فالجامعات في الدول المتقدمة ــــ حتى الحكومية منها ــــ لها استقلالية تمنحها التميز وتتيح لها التحرك بما يخدم مصلحة الجامعة، مع اشتراط تحقيق معايير للجودة والبحث العلمي للحصول على الدعم من الحكومة. فمتى سيُحرر البحث العلمي من وطأة هذه اللوائح الإدارية والمالية التي لا تتفق مع طبيعة الإنجازات البحثية والإبداعات الفكرية في الجامعات؟
ــــ على الرغم من الجهود الخجولة لتنمية كوادر أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السعودية في معظم التخصصات الأكاديمية، فإن هناك تخصصات إنسانية أهملت لفترة من الزمن، ما سيؤدي ــــ عاجلاً ـــ إلى انكماش أعداد أعضاء هيئة التدريس واختفاء الكفاءات الوطنية بها، ومن ثم تفاقم الحاجة للتعاقد لهذه التخصصات التي تتطلب الإلمام بالتاريخ والبيئة الطبيعية والاجتماعية المحلية في المملكة. لذا فالمصلحة تقتضي العمل على تنمية الكفاءات الوطنية في جميع التخصصات العلمية للعمل في المجالات التعليمية والبحثية على حد سواء. وهذا الوضع ــــ إذا لم يُعالج بجدية ــــ سيضطر الجامعات لتخفيض معايير التوظيف ومن ثم التأثير على جودة مخرجات التعليم العالي.
ــــ استقطاب مخرجات برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث من خلال حملات ''يوم المهنة'' في الملحقيات التعليمية أسلوب قديم وتقليدي، فلا يمكن تحقيق الأهداف من خلال مقابلة أعداد كبيرة في أيام معدودة، ثم أن كثيراً من المبتعثين لا يستطيعون حضور تلك الاحتفاليات، والأمر في هذا العصر ''التقني'' يحتاج إلى ''قاعدة بيانات شاملة'' تغذيها الملحقيات بأسماء المبتعثين وتخصصاتهم ومعدلاتهم وخبراتهم وتكون في متناول الجامعات والمعاهد ومنشآت القطاع الخاص قبل تنظيم احتفاليات أيام المهنة التي لا تحقق إلا القليل حسبما سمعت من بعض المبتعثين!
ــــ التعليم الموازي للماجستير يُعد مبادرة كريمة ومشكورة من لدن وزارة التعليم العالي لتوفير التعليم العالي محلياً دون الحاجة لمعاناة السفر لجامعات أقل جودة من جامعاتنا، ولكنه أصبح منافساً للبرامج الأساسية ''غير الموازية'' وأدى إلى هجرة الطلاب منها إلى ''الموازي'' بأعداد كبيرة، وأخشى ''أن يكون وراء الأكمة ما وراءها'' وأن السبب هو سهولة البرامج الموازية وانخفاض مستوى جودتها. لا أدعو إلى الحد من برامج الماجستير ''الموازية''، ولكن أقترح مراجعتها دورياً والتأكد من جودتها قبل فوات الأوان وتخريج كفاءات لا تضيف الكثير، بل تُلحق الضرر بمستقبل التعليم العالي وسمعة جامعاتنا العريقة!