مجهول الخريف المعلوم

في أوج حرب العراق، تحدث وزير الدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد عن ''المجهول المعلوم'' ــ المخاطر المتوقعة المشكوك في إمكانية تحقيقها. واليوم يواجه الاقتصاد العالمي العديد من المجهولات المعلومة، التي ينبع أغلبها من عدم اليقين السياسي.
ففي الولايات المتحدة، ستبلغ ثلاثة مصادر لعدم اليقين السياسي ذروتها هذا الخريف. فأولا، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي سيبدأ الخفض التدريجي لبرنامج التيسير الكمي المفتوح النهاية في أيلول (سبتمبر) أو في وقت لاحق، ومدى السرعة التي سيخفض بها مشترياته من الأصول الطويلة الأجل، ومتى وبأي سرعة سيبدأ في زيادة أسعار الفائدة من مستواها القريب من الصفر حاليا. وهناك أيضاً المسألة المتعلقة بمن سيخلف بن برنانكي كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وأخيرا، قد يؤدي صراع حزبي آخر بشأن سقف الديون الأمريكية إلى زيادة خطر وصول الحكومة إلى طريق مسدود في مجلس النواب الأمريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون وعجز الرئيس باراك أوباما وحلفاؤه الديمقراطيون عن الاتفاق على ميزانية.
وقد أثر المصدران الأولان لعدم اليقين على الأسواق بالفعل. فكان الارتفاع في أسعار الفائدة الطويلة الأجل في الولايات المتحدة ــ من مستواها المنخفض في أيار (مايو) الذي كان 1.6 في المائة إلى قمتها الأخيرة التي تجاوزت 2.9 في المائة ــ مدفوعاً بمخاوف السوق من أن يبدأ الخفض التدريجي لبرنامج التيسير الكمي قريباً جداً وبسرعة بالغة، وحالة عدم اليقين المحيطة بخليفة برنانكي.
حتى وقتنا هذا، كان المستثمرون راضين عن المخاطر التي تفرضها معركة الميزانية التي تلوح في الأفق. وهم يعتقدون ــ كما كانت الحال في الماضي ــ أن المواجهة المالية ستنتهي بحل وسط يتجنب العجز عن السداد وتعطل الحكومة. ولكن يبدو أن المستثمرين يستخفون بحجم الخلل الذي تعانيه السياسة الأمريكية الوطنية الآن. ففي ظل الجهاد الذي يخوضه أغلبية أعضاء الحزب الجمهوري ضد الإنفاق الحكومي، لا يجوز لنا أن نستبعد الانفجارات المالية في هذا الخريف.
وفي الصين، سيظهر لنا ما إذا كانت الصين جادة بشأن الإصلاحات الرامية إلى التحول من النمو القائم على الاستثمار إلى النمو القائم على الاستهلاك. ومن ناحية أخرى، أسهم التباطؤ في الصين في إنهاء دورة السلع الأساسية الفائقة، والتي أدت إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الطويلة الأجل (بسبب الخوف من خروج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مبكراً من التيسير الكمي) إلى ضغوط اقتصادية ومالية في العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة.
والواقع أن ازدهار هذه الاقتصادات (البريكس) ــ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وغيرها ــ كان موضعاً للمبالغة لفترة طويلة. فقد أدت الظروف الخارجية المواتية ــ التأثير الذي خلفه النمو القوي في الصين على أسعار السلع الأساسية المرتفعة والأموال السهلة من المستثمرين المتعطشين للعائد في الاقتصادات المتقدمة ــ إلى ازدهار مصطنع جزئيا. والآن بعد أن انتهى الحفل فقد بدأت المتاعب.
ويصدق هذا بشكل خاص في حالة الهند والبرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا، التي تعاني نقاط ضعف متعددة في مجال الاقتصاد الكلي والسياسات ــ عجز الحساب الجاري الضخم، والعجز المالي الكبير، وتباطؤ النمو، والتضخم الأعلى من الهدف المرغوب ــ فضلاً عن الاحتجاجات الاجتماعية المتنامية وعدم اليقين السياسي قبل الانتخابات في الأشهر الاثني عشر إلى الثمانية عشر المقبلة. ولا توجد خيارات سهلة: فالدفاع عن العملة من خلال رفع أسعار الفائدة من شأنه أن يقتل النمو ويلحق الضرر بالبنوك والشركات؛ وتخفيف قيود السياسة النقدية لتعزيز النمو قد يدفع عملاتها إلى السقوط الحر، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في معدل التضخم ويعرض للخطر قدرتها على اجتذاب رؤوس الأموال لتمويل عجزها الخارجي.
وهناك نوعان رئيسان من عدم اليقين الجيوسياسي أيضا. فأولا، هل تكون الضربات العسكرية المحتملة لسورية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها محدودة في نطاقها وزمنها، أم أنها قد تؤدي إلى اندلاع مواجهة عسكرية أوسع نطاقا؟ إن آخر ما يحتاج إليه اقتصاد عالمي هش الآن هو جولة أخرى من الارتفاعات الحادة في أسعار النفط.
وثانيا، قبل عام واحد أقنعت الولايات المتحدة إسرائيل بمنح نهجها غير العسكري في التعامل مع طموحات إيران النووية الوقت حتى يؤتي ثماره. ولكن بعد عام من العقوبات الاقتصادية والمفاوضات بلا نتائج فإن صبر إسرائيل على ما تنظر إليه باعتباره قضية تتعلق بوجودها بدأ ينفد. وحتى لو لم ينشب صراع عسكري فعلي ــ الذي قد يضاعف أسعار النفط بين عشية وضحاها ــ فإن العودة إلى التجهيز للقتال من جانب إسرائيل وحرب الكلمات بين الجانبين قد تؤدي إلى ارتفاع حاد في تكاليف الطاقة.
إن المجاهيل المعلومة التي تلوح في الأفق الآن وفيرة. وقد تكون بعض النتائج أكثر إيجابية، أو أقل ضرراً من المتوقع على الأقل. ولكن تحقق بعض المخاطر الموصوفة هنا هذا الخريف قد يؤدي إلى عرقلة تعافي الاقتصاد العالمي الذي لا يزال متذبذبا. وعلاوة على ذلك فإن المخاطر التالية المترتبة على الأخطاء والحوادث تظل مرتفعة للغاية.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي