صناعة النفاق.. وفعله..
فرض العقوبة على الرأي يصنع النفاق الجمعي، ويفرض على الفرد أن يفعله ولا يفارقه، وأن يكون ضحية له في آن، وإن هذا المبحث في منابعه وإدراك تفاصيله، وما ينتهي إليه من عظيم الآثار والنتائج، جدير بأن يتفرد به باحث يوفيه حقه الأوفى وحسبي منه أن أشير إلى الكليات الكبرى، وأن أتلمس السلوك المنتج للشخصية التي تفقد التصالح مع ذاتها، والتصالح مع فكرها، واليقين التام وغير المنقوص لإيمانها.
ـــ التعاطي مع ـــ أزمات الفهم ـــ والمشكلة الفكرية، ومراحل التشكيك التي تسبق اليقين، والتصادم مع العقل، والضعف في الرضا بالنص الديني.. التعاطي مع هذا كله بوصفه من أفعال الردة ومن سلوك المروق والكفر الذي يحرض الكل عليه، سينُشأ من هذا بالضرورة جيل يحمل ضعف اليقين، وهشاشة الاعتقاد، والانفصام الواعي بين الباطن المسكون بكل تلك المضمرات، وبين الظاهر الذي يعاقبه بأشد العذاب إن أظهر مكامنه، وأعرب عن خواطر الشك ومواطن استرابة الفكر ولو كانت على سبيل رشاد، وتتبع هدى.
ـــ إن أول المزالق من رجال دين، تجعل العقاب هو خير وسيلة لمن يبدي بلسانه شكه في حديث، أو فكرة تمس الثوابت الكلية للشريعة. وهذا التباس بيّن، وظاهر جلي، فثمة فرق بين المٌلبس على الناس دينهم بكثرة إثارة الشكوك، والظنون، وامتهان الطعن في الدين وما ينتسب إليه، والذي من مكونه الأساسي الإيمان بالغيب، وبين المؤمن الصادق، والذي عرضت عليه الوساوس والشكوك والظنون في إطار أسبابها المثيرة لها، والمحركة لسكونها، فيُبديها على ـــ لسان السؤال ـــ وإن اتصف بعدم النضج وقلة البضاعة في العلم، بالمستنكر، أو المنكر، أو المعترض. أو المستهزئ أو غيرها من صور يمكن اختصارها في '' غرور الجاهل بظاهر العلم'' وتلك حزمة صفات، وسلوك وادعاء، لمن كان في أول مدارك العلم، وأول طريق المعرفة غرور ووسطها تواضع وآخرها إقرار بالجهل الأعظم أمام إدراك المعرفة الحق بمداها الواسع العظيم.
إن أجيالا تنشأ اليوم في فضاء بات من المستحيل على أحد أن يغلقه، وبات من المستحيل على أحد أن يسيطر على نوع الرياح التي تأتي معه، وبكل يقين ستميل قلوب معه بعض الميل أو كل الميل. وبذا وظيفة المجتمع المؤمن أن يؤهل بعض رجال المعرفة فيه، ليكونوا منارة يهتدي بنورها البحارة إلى طريق المرفأ، ويبلغ بها الضالون في متاهات الدروب.
ـــ إن لغة العقوبة، ولغة فتوى قتل المرتد التي يتوسع في فهمها لمن يبتلى بشبهة فكرية، يورث النفاق ويصنعه. والنفاق لا يجاوره إيمان، ولا يتنزل على صاحبه خشوع، وينزله الشيطان بعد كل مرحلة من عمره درجة حتى يموت على الكفر الصرف الخالص.
ـــ لا ينحصر الكبت الصانع للنفاق ـــ في العقيدة أو الشريعة ـــ وعوارض الشك في بعض ما يتصل بهما. بل يمتد إلى الرأي في السياسة والاجتماع والفكر والحياة. القمع الجمعي يورث النفاق الفكري، إذ يفرض على المفكر والكاتب أن يتوارى، وينأى ويتباعد بالرأي المخالف للجمهور خشية العقوبة الجمعية المتمثلة في التهوين، وعقوبات النبذ، ومن يتتبع ـــ التعليقات ـــ على المقالات يبصر مدى الاستبداد الفكري الهائل للمجتمع، وغياب حرية الرأي ومتعة التعدد في الرؤية للحدث والموقف والتحليل.
وكأن الوظيفة المنوط بالعالم القيام بها هي قول ما يرض الناس عنه والتباعد عن سخطهم، ولو كان هو الحق الذي يحرم كتمانه، ويحرم على العالم ألا يظهره وألا يخرجه للناس. هذا القمع من سلوك ـــ صناعة النفاق ـــ وفعله أيضا.
لذا لم يكن مصادفة محضة أن يكون النبي ''أذن'' فعل مصدر مبالغة في كون النبي ـــ صلوات الله وسلامه عليه ـــ كان كثير السمع بما يفوق الوصف، لقد كانت كل الأقوال المضادة والمتقابلة والمتعارضة تنصب بسكينة و هدوء و وقار في إصغاء فريد.. هذا الذي جعل المنافقين يرمون النبي بعبارة ''أذن'' ظنا منهم أنها سيئة ورذيلة ومنقصة، فنزل قول الله جوابا عليهم ''ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم''.
إن كل قائد يجب أن يملك الصبر على السمع الدائم، ويجب أن تكون هذه أبرز صفة فيه، ''أذن'' وأن يصهر بعقله وفكره ونضجه كل ما يتلقاه، قل هو ''أذن'' لأن هذا الصفة هي خير لكم ـــ جودة الأداء والإدارة ـــ وخيرية النتائج في عصارة الخبرات، والمعارف المنسكبة في هذه الأذن الرحيمة بكم.
وهذا الذي جعل المجتمع يلقي بكل هواجسه، وخواطره حتى السيئة منها للنبي، فقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه.. صدرا حنونا ورحيما بالمؤمنين، حيث كانوا يلوذون بقدرته التي لا تنتهي بسماع كل دواخل أنفسهم من الشكوك والظنون وزوابع النفس اللوامة.
ومن يبصر بقلبه كتاب الله، وسيرة الأسوة الحسنة - صلوات الله وسلامه عليه - يجد فيها مواطن كثيرة من الشك المعلن الذي يصيره الله إيمانا بجميل الجواب وبقاعدة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وبالدفع بالتي هي أحسن، وإذا هي خير أمة أخرجت للناس بلغت نصف الأرض في ربع قرن لا أكثر.. وعلى ضوامر القدرة، وضعف الوسيلة، وعجائز الأبل.