بنجلادش.. الثانية عالميا في تصدير الملابس
يشكل قطاع صناعة الملابس وتصديرها في بنجلادش القطاع الاقتصادي الأكبر في البلاد سواء لجهة عدد العاملين فيه الذين يتجاوز عددهم أربعة ملايين أي نحو نصف إجمالي العاملين في القطاع الصناعي، أو لجهة ما يدره من عائدات الذي يصل إلى نحو 80 في المائة من العوائد الإجمالية للصادرات البالغة 25 مليار دولار - بحسب أرقام السنة المالية الجارية.
من ناحية أخرى، تحتل بنجلادش الموقع الثاني عالميا بعد الصين في قائمة البلدان المصدرة للملابس، علما بأن 60 في المائة من هذه الصادرات تتجه نحو أوروبا، و25 في المائة منها تتجه نحو الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من هذه الحقائق والإحصائيات، وعلى الرغم من أن مصانع الملابس البنجلادشية تكسو العالم، وتجني شركات العلامات التجارية المعروفة في عالم الأزياء من ورائها ثروات طائلة، فإن ما يجري فيها من هضم لحقوق العاملين، وما يسودها من أوضاع بائسة، يكشف الجانب المظلم من قصة صناعة النسيج والملابس في بنجلادش ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم. وهذه القصة التي لم يفتح العالم عيونه على تفاصيلها إلا في أعقاب حادثتين مأساويتين في مصانع الألبسة البنجلادشية، كانت الأولى في نيسان (أبريل) الماضي، حينما انهار جزء كبير من مجمع "رانا بلازا" لصناعة الألبسة، ما أدى إلى مقتل 1129 عاملا وعاملة ممن لا يتقاضون سوى أجر يومي زهيد لا يتجاوز الدولار الواحد. أما الحادثة الثانية فقد وقعت في العام الماضي وكانت عبارة عن اشتعال حريق ضخم في أحد المصانع المشابهة وتسبب في مقتل 112 شخصا حرقا.
هاتان الحادثتان كشفتا مدى ضعف معايير السلامة المطبقة وبؤسها في مصانع تدر الملايين على أصحابها والمستثمرين فيها والمتعاملين معها على مستوى العالم، مثل سلسلة محال "زارا" العالمية للأزياء النسائية التي تتعامل مع 350 مصنعا في بنجلادش، وشركة إتش آند إم التي تتعامل مع 260 مصنعا بنجلادشيا. إذ لم يكف عمال وعاملات هذه المصانع أن حقوقهم مهضومة لجهة الأجور والإجازات والحوافز، وإنما فرض عليهم العمل دون رحمة لساعات طويلة في ظروف تفتقد أدنى معايير السلامة والأمان. الأمر الذي دعا اتحادا مكونا من 70 شركة تجزئة وعلامة تجارية في مجال بيع الملابس، معظمها من قارة أوروبا، إلى القيام بخطوات للضغط على الشركات البنجلادشية المصنعة والمصدرة للملابس، من أجل تحسين معايير السلامة ورفع الأجور، بالتعاون مع النقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية في بنجلادش. وهو ما أثمر اتفاقا تقوم بموجبه فرق دولية، تضم مفتشين ومختصين في مجال الحرائق والسلامة، بزيارة المصانع البنجلادشية بالتنسيق مع نظرائهم المحليين بهدف فحص جميع المصانع وإلزام أصحابها بما ينبغي عليهم عمله، أو إحداث التغييرات المطلوبة والإنفاق عليها من الاستثمارات المشتركة أو قيمة البضائع المصدرة أو أموال الدعم الحكومي.
وقصة صناعة النسيج والملابس الجاهزة في هذه البلاد قصة ذات شجون، ويجب أن تروى للوقوف على التحديات التي واجهتها، والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من ريادة عالمية.
فهذه الصناعة كان يسيطر عليها بالكامل الشخصيات والعائلات الإقطاعية المتحدرة من باكستان الغربية حينما كانت بنجلادش تعرف بباكستان الشرقية. وظل الأمر كذلك حتى ستينيات القرن الماضي حينما تولى السلطة في كراتشي المارشال محمد أيوب خان. ففي ظل هذا الرجل، الذي لم يكن منتميا إلى إحدى العائلات الإقطاعية ككل أسلافه وخلفائه من البنجابيين والسنديين الذين عرفوا بهيمنتهم على التجارة والصناعة وشراهتهم للمال والجاه، تمكن بعض البنجاليين من أبناء باكستان الشرقية من إنشاء مصانعهم الخاصة للنسيج والملابس الجاهزة، وهي المصانع التي تضررت كثيرا من أحداث حرب الانسلاخ عن الكيان الباكستاني في عام 1971.
والحقيقة أن بنجلادش لم تتبع سياسة التصنيع من أجل التصدير في قطاع النسيج والملابس إلا في أعقاب قيامها ككيان مستقل عن باكستان. في هذا الوقت كان الشاي والجوت هما وحدهما السلعتان الموجهتان للتصدير إلى الخارج، غير أن انخفاض أسعارهما عالميا عطفا على تدهور محاصيلهما بسبب الفيضانات المدمرة وقتذاك، أدى إلى تراجع مكانتهما دورهما في اقتصاد البلاد.
وربما كان بالإمكان في تلك الفترة الحرجة أن يحل النسيج والملابس محل الشاي والجوت كسلعة تصديرية مدرة للعملات الصعبة، وأن يتوسع هذا القطاع ويزدهر بقوة في وقت مبكر. غير أن السياسات الاشتراكية لزعيم الاستقلال وأول رؤساء الحكومات البنجلادشية الشيخ مجيب الرحمن، وإقدامه على تأميم قطاع النسيج والملابس بالكامل وتكليف مؤسسة عامة بإدارته، أدى إلى تدهور شامل وفشل ذريع. إذ لم تستطع المؤسسة العامة المكلفة بإدارة القطاع تحقيق ما كان قائما قبل انسلاخ البلاد عن باكستان لجهة الناتج والعائد.
وظل الأمر كذلك حتى أوائل الثمانينيات حينما أصدرت الحكومة تشريعات لخصخصة صوامع الجوت والنسيج وإعادة ملكيتها لأصحابها. وكان هذا التطور قد بدأ فعليا، لكن بشكل خجول، في عام 1974 على أثر ما شهدته البلاد من موت نحو مليون نسمة بسبب الفيضانات وما نجم عنها من تدهور في محاصيل البلاد من الأرز وارتفاع أسعاره بصورة جنونية، الذي أدى بدوره إلى انتشار المجاعة.
وبناء عليه فقد دخل في هذه الحقبة، ولأول مرة، مستثمرون أجانب إلى قطاع تصنيع الملابس "يمتلكون اليوم نحو 50 في المائة من أصول المصانع القائمة". وكان أول هؤلاء شركة دايو الكورية الجنوبية المملوكة للدولة وذات الخبرة المتراكمة في قطاع صناعة المنسوجات وتصديرها.
حيث أقامت مشروعا مشتركا في عام 1977 مع نظيرتها البنجلادشية ديش جارمينت المحدودة، لتثمر هذه الشراكة عن أول مشروع ضخم لإنتاج الأقمشة والملابس لأغراض التصدير. كما أن هذه الشراكة سهلت للبنجلادشيين التدرب والتخصص وتلقي المهارات المتقدمة في كوريا الجنوبية.
وهكذا فإنه بحلول عام 1981 كان هناك 300 مصنع وشركة نسيج وألبسة جاهزة خاصة. ويرجع الفضل الأكبر في إقامة مزيد من هذه المصانع ودعمها إلى الجنرال حسين محمد إرشاد الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري أبيض في عام 1982.
ولعل أفضل دليل على الطفرة التي حدثت في هذا القطاع هو زيادة قيمة الصادرات من الألبسة الجاهزة من 35 مليون دولار في 1981 إلى 10,7 مليار دولار في 2007، ثم إلى 25 مليار دولار حتى منتصف العام الجاري.