ماذا يريد السائح في عسير؟
السائح في أي مكان في العالم يريد إجازة، هذه الإجازة يجب أن تحقق له الآتي: مكاناً هادئاً وجميلاً (ليس بالضرورة أن يكون مترفاً وثرياً)، أكلاً مميزاً ومتنوعاً، أماكن للزيارة سهلة الوصول، ومترفة. ولنضع تحت ''مترفة'' الكثير من الخطوط. إن أي سائح يريد أن يشعر بقيمة ما يدفعه وأنه يستمتع بالترف، خاصة إذا شعر بأنه مجاني، ولو دفع في الخدمات الأخرى ما هو أكثر. معادلة ليست بالمستحيلة الحل، بل فقط صعبة، تحتاج إلى جهد وشجاعة في القرار. والآن لنبدأ رحالة سياحية في عسير من أولها، حيث لم تكن قضية السياحة تلفت انتباهي من قبل، لأنني عندما أعود للمنطقة أعود دائماً في ثياب رجل عاد إلى منزله ولديه الكثير من الأعمال الخاصة. لكن أخيراً أتيحت لي فرصة لزيارة المنطقة كسائح، مع وفد مهم تنوعت خبراتهم ومسؤولياتهم وتعليقاتهم، عدت معهم في ثياب السائح الناقد المتعلم، كان البرنامج مليئاً فعلاً بالأماكن التي تستحق الزيارة، ومع ذلك كانت التعليقات حادة والنقد كبيراً. أبها تتمتع بهدوء رائع جداً، وهذه مقومة كبيرة يجب ألا تفقدها تحت أي سبب، يجب أن يعود الهدوء إلى أبها، وأن تتوافر الفنادق والشقق خارج المنطقة السكنية تماماً، على أطراف المدينة، فالسائح لم يأت لينشغل بالازدحام ولا الأسواق ولا ضجيج الألعاب النارية، بل يريد الهدوء في أبها، لذلك يجب أن تستند تجارتها السياحية إلى هذا المنتج ''الهدوء''. أبها ليست مدينة المراجعات الحكومية، فلا معنى لأن تكتظ المدينة بشتى الشقق السكنية ومشكلات لا حصر لها، بل السائح يريد أن يشتري الهدوء ويجب أن نبيعه بطريقة احترافية. الهدوء لا يعني الموت، هناك فرق.
المجمعات السكنية فكرة جميلة بدأت في أبها منذ مدة طويلة، وكانت تقدم للزائر الهروب إلى الهدوء، لكنها فشلت في أن تبيعه في علبة السياحة، بسبب فشلها في أمرين معاً، فشلها في اختبار الجمال ولو كان بسيطاً، والترف ولو كان غير مكلف. لقد وصف الجمال قبلاً بأنه النظافة والبساطة، ومع ذلك فإن الطريق للمجمعات السكنية كان يمر عبر طرق سيئة وتعج بأنواع المخلفات، وحدّث ولا حرج عن مستوى النظافة السيئ داخل المجمع نفسه وخارجه وفوضى المواقف، ثم مع ذلك لا يوجد مقهى راق على نموذج كوستا البريطاني، أو د. كيف السعودي أو غيرهما مما اشتهر. لا يوجد مسبح في الهواء الطلق، ولا مطعم مميز، لا توجد حافلات من المجمعات إلى وسط المدينة للتسوق، أو إلى أطرافها للتنزه، لا يوجد برنامج لدى المجمع للنقل المتردد. المجمعات يجب أن تبنى على الأطراف ويجب أن تتمتع بهدوء كثقافة مطلقة, وأن يتوافر فيها مقهى ومسبح وأن يتوافر فيها مطعم مناسب، ثم وسائل نقل إلى مناطق محددة مسبقاً.
في وسط المدينة هناك ميزة واحدة فريدة لم تستغل بعد، وهي منطقة المفتاحة والسوق الشعبي، ما زالت أبها عاجزة عن استثمار هذه المنطقة سياحياً رغم غناها، تجربة سوق واقف في قطر خير برهان على ما يمكن أن تصنعه هذه المنطقة من جذب سياحي ضخم. منطقة المفتاحة في سط أبها تتمتع اليوم بكل الإمكانات التي توافرت لسوق واقف، فهي تقف على جانب ممشى رائع فعلاً، وترتبط بأسواق شعبية، فماذا ينقصها ولِمَ هي مغلقة في وجه السياحة؟ طبعاً نعود إلى المشكلات نفسها، فالمنطقة غير مرتبة وغير متناسقة وغير نظيفة، لا توجد مطاعم من كل ثقافات العالم، لا توجد مقاهٍ بكل الأشكال مع تعدد الثقافات. منطقة المفتاحة ترتبط بالمنطقة المركزية، التي توجد فيها الإمارة والمتاحف والمكتبة العامة وفندق، وسوق شعبي وسوق حديث، فالإمكانات متوافرة تماماً ومع ذلك تفشل في جذب السائح وخلق برنامج يوم متكامل بين أروقة هذه المنطقة. لا بد من تطوير الطرق في هذه المنطقة بربطها ببعض وبطريقة سهلة مبتكرة، لا بد من وجود خدمة نقل مترددة، ولا مانع من مترو إذا لزم الأمر بحيث يستمتع السائح بترف غير مكلف وتنقل السائح من السوق الشعبي إلى السوق الحديث، إلى المتاحف إلى المفتاحة بمطاعمها الفارهة، يجب تطوير السوق الشعبي تطويراً يتمتع ببساطة ونظافة وجمال مدهش، لا بد من فتح المفتاحة أمام الزوار بمطاعم فارهة، وأسواق ومقاهٍ تأخذ السائح في هدوء أبها إلى عالم من الخيال، ولا بد أن تتوافر فيها مرافق متقدمة الرفاهية. إن هذا هو معنى بيع الرفاهية بسعر زهيد، إن السائح يريد أن يسكن في مكان ذي سعر معقول ليس بالضرورة أن يمثل الرفاهية، بل يتمتع فيه بالنظافة والجمال البسيط، لكنه عندما يزور المدينة يجب أن يتمتع بالرفاهية، في المطاعم، في المقاهي، في الممرات، وفي عالم من الفعاليات التي يراها ولا تكلفه شيئاً.
تتمتع أبها بمتنزهات رائعة فيها هدوء ساحر، وهي كمنطقة لا تنافس مثيلاتها في الجمال، هذه حقيقة يجب أن نؤمن بها، لكنها تقدم سحر الهدوء وسحر الشمس الدافئة، المزعج في الأمر المسافة من مركز المدينة حتى هذه المناطق. هذه الرحلة الطويلة مملة إلى حد كبير، والسائح يفشل تماماً في تجزئتها وعليه أن يمضي يوماً كاملاً في منطقة واحدة وفي ملل كبير في زمن مستعجل وتجربة لا تستحق الإعادة. من الجميل أن تجد قرى جميلة على طول الطريق وفيها مبان أثرية متناثرة، هذه متعة للسائح لا تماثلها متعة، لا بد من تطوير هذه القرى على طول المسافة من أبها حتى المتنزهات، تطويرا يرتكز على قصة المكان، ليس بالضرورة أن تحتوي جميعها متاحف متكررة المقتنيات، بل مجرد قصة المكان وممراته وتاريخه، ومركز لبيع منتجات محلية مثل العسل والأكل الشعبي ومنتجات الأسر، جميل أن يتسابق السياح على شرب لبن مصنوع محلياً، أو الصعود إلى أعلى برج كبير يحكي قصة المنطقة ويقدم متعة للتصوير والرسم، وهناك مساحة أخرى تقدم فرصة لركوب الخيل والتمتع بجولة في القرية ومزارعها وأوديتها، وتوافر أماكن للصلاة وسط القرية بطبيعتها الخلابة، وأماكن للوضوء على الطريقة التقليدية، لكن مع دورات مياه راقية ومتقدمة ومركز كامل لخدمات رجال الأعمال. إضافة إلى فندق شعبي صغير جداً، لكنه مترف، إضافة إلى مطعم يقدم وجبات محلية الصنع من أسر منتجة. يمكن تطوير الكثير من هذه القرى، إضافة إلى أفكار عدة مثل قرية على الطريق وقريبة من المدينة كمركز لبيع الكتب، ومنتجات المعرفة، فهي بيوت شعبية عادية، لكن في ذلك المنزل مكتبة ملحقة بإحدى الغرف الخارجية، وفي ذاك مشروع متكامل لبرمجيات معينة، ومقهى وممرات ساحرة مترفة، ودورات مياه ومصلى.
الحديث طويل وذو شجون والمساحة لا تكفي، والإمكانات التي تتمتع بها المنطقة خيالية لكن تحتاج إلى رؤية شاملة، إلى أن نتجاوز المرحلة بدعم كامل من قبل الدولة، كدعم الزراعة في الثمانينيات في القرن الماضي.