أزمة العرب تشتد والهاوية في انتظار الجميع
العرب لا يقرضون الشعر، بل يحفظونه ويستشهدون بعيونه وحكمه. العرب أمة الشعر والحكمة والخطابة. في حلهم وترحالهم، في أفراحهم وأحزانهم، يقتبسون من تراثهم وثقافتهم وأدبهم وشعرهم الذي تكتنزه لهم لغتهم الجميلة.
ومن عيون الشعر العربي قصيدة رائعة صار بيت من أبياتها على لسان كل متعلم ومثقف من العرب. وهذا البيت سمعته كثيرا من الأصدقاء العرب وهم يرددونه لوصف الحال الذي هم وأوطانهم فيه دون أن يكون لهم معرفة كاملة بقائله والسياق الذي أتى فيه.
لا أعلم إن كانت ''قصيدة المنفرجة'' جزءا من المناهج التدريسية في العالم العربي، لكنها مغناة وشائعة في بعض مناطقه. ناظمها المعروف بابن النحوي، كان من شعراء الأندلس حيث تزاوج الفكر النير والفلسفة والانفتاح مع الفقه وعلوم الدين في نهضة ومدنية وحضارة راقية سبقت زمانها قرونا.
وتأثر الشعر والنثر بهذه النهضة كثيرا. وابن النحوي كان فقيها يميل صوب الاجتهاد والتصوف الذي رافق الحضارة الأندلسية. ومهما كان رأينا في التصوف الإسلامي فلولاه لما وصل إلإسلام إلى أقاصي آسيا حيث توجد اليوم أغلبية المسلمين. هذه الشعوب دخلت الإسلام ولم تطؤها قدما جندي مسلم واحد؛ للمثال الحسن والسلوك الحسن والخلق الحسن لهؤلاء المتصوفة من المسلمين.
هناك تفاسير كثيرة لقصيدة ابن النحوي، لكن في رأيي أنها تجسد السمو الذي كان قد بلغه العرب عندئذ لأنها تستقي عذوبتها وحكمتها من الذكر الحكيم ومكانته لدى المتصوفة والفقهاء، وتركز في الوقت نفسه على دور الحكمة والعقل في النظر إلى الأمور.
ولها نبرة تفاؤلية كبيرة أمام الشدائد والأزمات التي كانت أيضا تعصف بالعرب والمسلمين، لكن ربما ليس بشدة الإعصار المدمر الذي يضرب به الواحد الآخر اليوم وصاروا لا يكتفون بهذا، بل يستجيرون بالأعاجم والأجانب من غير العرب والمسلمين لضرب بعضهم بعضا. لضيق المساحة أنقل ثلاثة أبيات كاستشهاد والأول منها يضرب كمثل حتى اليوم:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
وأتلو القرآن بقلب ذي
حزن وبصوت فيه شجي
وكتاب الله رياضته
لعقول الخلق بمندرج
وخيار الخلق هداتهم
وسواهم منه همج الهمج
أنا لست أديبا ولا شاعرا، لكن إن أراد شاعر أو مفكر أن يقيّم وضع العرب حاليا لغيّر في نبرة الأمان والأمل والتطلع صوب المستقبل والتفاؤل التي أراد ابن النحوي، كفقيه يأخذ الاجتهاد نبراسا في قراءته وتفسيره، أن يغرسها في زمانه ومكانه ومتلقيه.
أزمة العرب لم ولن تنفرج، بل ستنفجر، وليلهم لن ينبلج وسيزداد ظلاما، وقراءة القرآن أخذت مديات خارج رسالة التسامح والمحبة التي لو نزلت على جبل لزلزلته، كما فتحت عقل ابن النحوي لفهم الدنيا والسعي صوب الآخرة. وكتاب الله يتم - مع الأسف الشديد - تشويهه بحيث صار رياضة ليست للعقل بل للقتل المجاني، حيث يقتل العرب بعضهم بعضا مثل الزنابير وبعدها يستجيرون بالآخرين من غير دينهم لقتل أنفسهم، وصار الخلق اليوم رهائن في يد ''همج الهمج''.
أستميح قرائي عذرا لأنني ربما في نظرهم أطلقت العنان لخيالي هذه المرة وفقدت توازني، بيد أنني أقولها صراحة إنني أكاد أفقد عقلي لأنني لا أستطيع استيعاب ما يحدث في أمصار العرب والمسلمين. لا أستطيع هضم كل هذا القتل الرخيص والتدمير المجاني وإعادة البلدان مئات السنين إلى الوراء، وتفريغ الخزائن لإدامة ماكينة التدمير والقتل وكأن المقتول والمدمَر عدو لدود وليس الوطن وأبناءه.
''همج الهمج'' يستخدمون الغازات السامة لقتل شعوبهم، و''همج الهمج'' يفجرون أنفسهم في أماكن عامة يرتادها مواطنوهم من العرب والمسلمين، و''همج الهمج'' يكفرون من يختلف عنهم قراءة وفكرا ويحكمون عليه لفظا وفعلا بالموت.
واليوم (الأربعاء) موعد تسليم الرسالة إلى محرر الصفحة، لكن قد نستيقظ يوم الجمعة أو ربما قبلها والصواريخ المدمرة والأسلحة الفتاكة تنهمر على بلد عربي مسلم آخر تتركه يبابا بعد أن عاث فيه حكامه قتلا وفسادا.
ما أسعد ''همج الهمج'' من الغربيين وهم يعدون العدة للنيل من بلد عربي مسلم آخر وإعادته إلى عصر ما قبل الصناعة كما فعلوا ببلدان عربية أخرى.
والعرب لها ''كتاب الله رياضته لعقول الخلق بمندرج''.
لا يا ابن النحوي ليس هناك اليوم رياضة للعقل، وخيار الخلق ما عادوا هداتهم و''اشتدي أزمة تنفجري'' وليس تنفرجي.