أزمة مصر.. موت فكر هيكل
غياب محمد حسنين هيكل عن المشهد الحالي يحمل مدلولات تساعد على فهم الحالة في مصر اليوم. بدأ هيكل يكتب قبل انقلاب 1952 الذي مُجّد على أنه ثورة، فما أشبه اليوم بالبارحة، إذ تمجد أحداث 2011 على أنها ثورة، بينما هي حالة غضب عارم مبرر. تراكمت العيوب فضحى العسكر بمبارك للحفاظ على نظام كان لهيكل دور عراب مبكر ومتفان في تأسيسه. غياب هيكل عن مسرح الإعلام السياسي مريب بعدما ذكر أنه عقد اجتماعا مع الفريق السيسي قبل عدة أسابيع من الانقلاب. يشاء القدر أن يشهد هيكل تجربة مصر القاصرة في الحكم على مدى ثلاثة أجيال تعاقب عليها عدة رؤساء لم يترك المشهد أحد منهم طوعا، عدا عبد الناصر الذي مات كسيرا بعدما قاد مصر إلى قمة الذروة العاطفية والهاوية المادية والروحانية، وترك ما يحصد المصريون اليوم من بيئة سياسية واقتصادية. كان هيكل هو المستشار والصحافي الخاص وأخيرا المؤرخ الانتقائي.
انكشفت طبيعة الحكم وهراء هيكل بعدما اكتملت الدائرة العسكرية على مدى أكثر من 60 عاما. لم يسع هيكل لإعادة كتابة التاريخ وتفسير الأحداث اختياريا لما تصل الأمور إلى اكتمال الدائرة - رجع هيكل، حيث بدأ ولا يريد أن يواجه الواقع وليس هناك من فرصة أخرى لإعادة التسويف التاريخي. الأخطاء القاتلة مجتمعيا بطبعها تراكمية، وصلت مصر إلى هذه الحالة بسبب الفكر السياسي القصير النظر والفاقد للبعد الاستراتيجي، كان لهيكل دور بارز، كان مدافعا عن منظومة خرقاء ظاهريا أحيانا وضمنيا أحيانا أخرى، وحتى في أشد اختلافاته مع السادات ثم مبارك لم يجرؤ على تشخيص حالة الفشل، على الرغم من قدراته التحليلية المعتبرة وذاكرته ولو أنها انتقائية، فهو منظِّر لوجود وسيطرة وليس لبناء مصر كي تقود بالمثال، ولذلك توجه إلى النقد السلبي وخاصة للدول العربية. لا أكتب عن هيكل تشفيا فهو جعل من أحاديثه الطويلة وتضحيته بالأمانة الفكرية مجالا لكل من يريد أن يعرف، ولكن لمحاولة فهم ورصد الحالة الثقافية في المجتمع غير الناجح ودور المثقف غير الأمين، فلهيكل ولمن على شاكلته من مثقفين مزيفين دور في وصول مصر إلى هذه الحالة.
لعل هذا هو سبب غيابه أم أنه ينتظر العاصفة تمر ليأتي بتبريرات من الأربعينيات حينما بدأ الكتابة مراهنا على ضعف الذاكرة التاريخية لدى العرب وركضهم وراء المثير على حساب المنير. لا أعرف ماذا سيقول هيكل عن هذه الأزمة ولكنه سيجد له دورا لا محالة من خلال براعته اللغوية وحنكته المطاطية وتجربته المليئة بأشباه الأعذار. نجحت الديمقراطية في الغرب لأسباب عديدة ولم تنجح في مصر وغيرها لأسباب عميقة، ولكن أحد الأدوار المفقودة لدينا: دور المثقف الأمين. ولكن هيكل حريص أكثر على الوصول إلى الدائرة الضيقة ولو على حساب مصر التي يمجدها كلامياً.