أستاذتي .. والتنورة
تجارب الحياة تغدو رائعة حين نقتسم خبراتها مع الآخرين رغم أن البعض قد يجد حرجاً في ذكرها، والبعض الآخر يظن أنها خاصة بصاحبها فقط، وقلة من يدركون أن معرفة الآخرين عنها قد تشكل فارقاً في حياتهم لذلك دعوني أحدثكم عن تجربة مررت بها ولم أنسها، بل إنها أصبحت مثل بطاقة المناسبات السعيدة .. أبتهج باستعادة ذكرياتها حين تتأزم الأمور من حولي!
حين كنت أدرس في الكلية كنت أعيش مع زوجي في ظروف مادية صعبة جداً إلى تلك الدرجة التي لم أتمكن فيها من شراء ملابس جديدة للكلية أتصدقون ذلك؟!
كانت الكلية تُلزمنا بارتداء تنورة سوداء وقميص أبيض ولأن الظروف المادية وقتها لزوجي كانت بالغة السوء فقد اشتريت تنورة رخيصة جداً بحيث إنها لم تصمد أمام كثرة الاستخدام اليومي لها .. فمع تكرار عملية غسلها كانت ترتفع قليلاً وتبدأ خيوطها الواهية في التسلل خارج حدودها.. كنت طالبة مثالية لكن ذلك لم يشفع لي أو يحول بيني وبين ما حدث؟ أترغبون قرائي الكرام في معرفة ماذا حدث..؟!
رأتني إحدى ''الأستاذات'' ورأت كيف أن تنورتي قصيرة بمقدار بوصة واحدة بفعل عوامل التعرية التي كانت تجهلها والتي حدثتكم عنها، وللحق فقد كان هناك تنورات أقصر بكثير لم تتنبه إليها أستاذتنا.. ربما لأن الإنسان المثالي يكون دائماً تحت المجهر .. أقول ربما!
طلبت مني أن أغير تنورتي التي وصفتها بـ ''قلة الأدب'' ابتلعت حينها ريقي بصعوبة فتخيلوا طالبة مثالية ويتم توجيه هذه الملاحظة الكارثية لها.. وأمام زميلاتها.. وأيضاً دون معرفة خلفية التنورة الكئيبة، يومها بكيت في حمام الكلية .. كنت أحاول أن أداري دموعي وضعفي وانكساري .. لم أكن أريد لأحد أن يعرف ظروفي المادية الصعبة فمنذ كنت صغيرة كنت أمقت نظرات الشفقة.
مرت الأيام وظروفنا المادية لم تتحسن بل ازدادت سوءاً فواتير تراكمت وأقساط لم تسدد وديون لم يعد أصحابها يطيقون الانتظار..!
والشيء الجديد أنني أصبحت تحت مجهر هذه الأستاذة فأصبحت يومياً تكرر هذه الملاحظة عليَّ حتى أصبحت أسعد أيما سعادة حين تنشغل بأمر ما.. أو تتغيب لأي سبب كان، لكن علمتني الحياة أن الأمور التي نخشاها هي دوماً ما تظهر لنا ونكون وجهاً لوجه أمامها.. سأصور لكم المشهد حتى تدركوا قسوة التجربة التي مررت بها.. كان اليوم يوماً مفتوحاً في الكلية مما يعني أن الجميع خارج أسوار القاعات ، يومها كانت الساحة مثل خلية نحل الطالبات والأستاذات والموظفات والعاملات لكأنما الجميع يومها يجلسون فوق مقاعد مسرح كبير ويتفرجون على عرض بائس، ابتدأت فصوله حين مررت أمام تلك الأستاذة محاولة جهدي التواري عن ناظريها بلا جدوى ليأتيني صوتها مرعباً مزلزلاً كل خلية من خلايا مثاليتي الهادئة وخوفي المرتقب.. ''سلوى''، ألم أخبرك بأن تغيري تنورتك؟ هل المسألة تحدٍ أم إيش..؟ هذا آخر إنذار وبعدها تحقيق أفهمت..؟! سكون عم الساحة فجأة.. وشعرت بأني أتلاشى ببطء مروع.. لم أعد أشعر أو أرى أي شيء من حولي.. كانت هناك ضبابية مخيفة تعم المكان.. اختفت الوجوه من أمامي.. خيَّم الصمت.. أخذت أبحث عن نفسي.. أين أنا..؟! ماذا حدث؟.. دقائق مرت وتبدَّد غبش الرؤية.. همسات رثاء تصاعدت من حولي، ضحكات سخرية.. ونظرات حادة نحو تنورتي البائسة، لكن المثير للسخرية أنني لم أسمع تصفيقاً ولو من باب التشجيع والمساندة!
صوت في داخلي أخذ يصرخ بي بقوة.. اهربي اهربي.. تواريت عن الأنظار كالعادة.. ذهبت إلى حمام الكلية وبكيت و أنا أشعر بانكسار مريع بداخلي وبإهانة مريرة وازدراء نفسيٍ بالغ.. وقفت أمام صنبور الماء لأغسل وجهي حين شعرت بوقوف صديقة لي بجانبي وبيدها منديل أعطتني إياه وهي تقول:- سلوى أتذكرين حلمك الكبير الذي حدَّثتني عنه بأنك ستكونين كاتبة معروفة يوما ما، ربما أنتِ الآن متألمة ولكن تخيلي نفسك تلك الكاتبة وتجاوزي كل التعليقات التي سمعتِها الآن وتصرف الأستاذة معك..! وخرجت صديقتي.. ثم نظرت إلى المرآة.. ولأول مرة.. رأيت نفسي وجهاً لوجه مع ذاتي المنكسرة المحطمة الخائفة التي كانت تجيد الهروب دوماً، لحظتها شعرت ولأول مرة أني لا أرغب أن أكون تلك الإنسانة واقتربت من المرآة ركزت على عينيَّ ثم أغمضتهما وأنا أهمس لنفسي ''سلوى من أنتِ؟''.
وجاءني الرد ''أنا كاتبة معروفة وراح تقرأ هذه الأستاذة اسمي وتتذكرني وتتذكر موقفها معي..''.
أتدرون ماذا حدث بعد ذلك؟!
لم تعد تهمني ملاحظات تلك الأستاذة ولم أعد أعبأ بها، بل إني تجرأت يوماً أن أقول لها.. ''حين أكون الطالبة الوحيدة في الكلية التي تنقص تنورتها بمقدار بوصة واحدة حاسبيني'' ومن يومها لم تعد توجه لي أي ملاحظات..!
علمتني هذه التجربة أن تلك الصورة الذهنية التي تسكن في عقلنا الباطن ما هي إلا من صنعنا نحن وليس مهماً من تكون الآن أو ما ظروفك؟! أو كيف ينظر لك الآخرون؟ بل المهم ماذا فعلت لتغير من تلك الصورة التي ستشكل مستقبلك كله فيما بعد!
فمهما كانت ظروفك بالغة السوء الآن، فذلك ليس عذراً لك أبداً لتظل جامداً حيث أنت، والاختباء ليس حلاً أبداً فلابد أن تواجه ما هربت منه يوماً..!
وكن واثقا عزيزي القارئ ''تمام الثقة'' أن الآخرين ينظرون إليك حسب نظرتك أنت لنفسك!
لذا ابدأ من الآن بالتفكير الجدي في رسم صورة ذهنية رائعة للإنسان الذي ستكونه أو تريد أن ترى نفسك عليه بالفعل.