هل يحقق الاستثمار الزراعي في الخارج الأمن الغذائي؟
الهدف الرئيس لمبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، حسبما ورد في رؤية المبادرة، هو ''التصدي لمشكلة الأزمة الغذائية، باتخاذ إجراءات مناسبة، وتأمين العيش الرغيد للوطن وتحقيق الأمن الغذائي''. في رأيي الاستثمار الزراعي في الخارج ليس الحل الأمثل لقضية الأمن الغذائي، وبالتالي هذه المبادرة ستكون مكلفة بشكل كبير، وستكون إدارتها صعبة للغاية، ونتائجها غير مضمونة. وعلى الرغم من ذلك، أرى أن المبادرة تسهم في تحقيق هدف آخر، لم يرد نصاً في المبادرة، وهو المحافظة على المياه الجوفية في المملكة.
هذا يعني أن المبادرة قد تكون فاعلة إلى حد كبير في قضية المحافظة على المياه الجوفية، التي تسمى أحياناً المياه الجوفية غير المتجددة، من خلال الحد من زراعة بعض المنتجات الزراعية المستهلكة للمياه، وتوجيه من لديهم الرغبة في زراعة هذه المنتجات إلى الخارج. لكن هذا الهدف يختلف بشكل كبير عن قضية الأمن الغذائي، الذي هو صلب مبادرة الملك عبد الله. ولا أعتقد أن هذه الملاحظة غابت عن ذهن اللجنة الوزارية التي شكلت من وزارة التجارة والصناعة ووزارة الزراعة ووزارة الخارجية ووزارة المالية وفرق العمل الفنية الذين قاموا بإعداد خطة عمل واتخاذ إجراءات مناسبة للمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي للمملكة. لكن ربما أن المهتمين بموضوع الأمن الغذائي رأوا فائدة جزئية في تحقيق هدف الأمن الغذائي من خلال الاستثمار الزراعي في الخارج، فقاموا بتشجيع المبادرة على هذا الأساس. وفي المقابل، وجد المهتمون بشأن المياه الجوفية أهمية ربط قضية الأمن الغذائي بموضوع الاستثمار الزراعي في الخارج، لتحقيق هدفهم في المحافظة على المياه الجوفية، وتوجيه المستثمرين الزراعيين السعوديين إلى الخارج.
لا بأس أن تكون هناك أهداف نبيلة، مثل المحافظة على المياه الجوفية من النضوب، ولا بأس أن تكون هناك أهداف سامية لتحقيق الأمن الغذائي، لكن هل أفضل علاج لهذين الهدفين هو الاستثمار الزراعي في الخارج؟ لا أعتقد ذلك.
أولاً، كيف يمكن لمبادرة الاستثمار الزراعي في الخارج التصدي لمشكلة الأزمة الغذائية؟ وما الأزمة الغذائية المقصودة؟ هل نقص المواد الغذائية بسبب أزمات سياسية ونشوب حروب هو المقصود؟ إذا كان كذلك، فالاستثمارات الزراعية الخارجية ستكون معرضة للمشكلة ذاتها، وربما بشكل أكبر، ويكون من الأفضل ربما تقوية الاستثمارات الزراعية الداخلية وليس الخارجية. أما الهدف الثاني للمبادرة، الحفاظ على استقرار أسعار المواد الغذائية، فهو غامض بشكل كبير، لأن أسعار المواد الغذائية ليست مرتبطة بملكية الاستثمارات الزراعية، بل مرتبطة بتفاعلات اقتصادية عالمية وموازين عرض وطلب معقدة، خصوصاً أن المبادرة ركزت على أن من يقوم بهذه الاستثمارات هو القطاع الخاص، وهو القطاع المعني بالربح والخسارة. فلا يمكن لأسعار السلع الغذائية أن تكون مستقرة لمجرد أن المستثمرين فيها جنسياتهم سعودية.
الغريب في الأمر أن استراتيجية المبادرة لا تتحدث عن الزراعة في الخارج، بل تتحدث عن إيجاد مخزون استراتيجي آمن من السلع الأساسية والثروة الحيوانية لا أكثر ولا أقل، فلماذا سميت بمبادرة الاستثمار الزراعي في الخارج؟ كيف يكون الاستثمار الزراعي في الخارج الحل الأمثل لإيجاد مخزون استراتيجي؟ أليس إيجاد مخزون استراتيجي، كما تفعل دول كثيرة، يتم من خلال عقود خارجية لتوريد السلع المطلوبة وتخزينها على أراضي المملكة؟ أليست العملية برمتها عبارة عن استثمار تجاري بحت، وليس زراعيا في حد ذاته؟ العملية عبارة عن تعاقدات تجارية لاستيراد سلع إلى المملكة، لا يعنينا كثيراً من يملك هذه المعامل أو المصانع أو المزارع. هل تم اختطاف مبادرة الأمن الغذائي وإقحام الزراعة الخارجية فيها؟
ما الضرر في الاستثمار الزراعي في الخارج، ولماذا لا نتوسع فيه، ونطبق مبادرة خادم الحرمين الشريفين للاستثمار الزراعي في الخارج؟ في رأيي أن المبادرة الكريمة -على الرغم من عنوان المبادرة- ليست معنية بالاستثمار الزراعي في الخارج، بل هي معنية بالأمن الغذائي، وأن الاستثمار الزراعي في الخارج جاء كمجرد حل جانبي وضعيف لقضية الأمن الغذائي، وكان من الممكن أن يدرج كأحد عناصر الاستراتيجية، وليس صلب المبادرة.
الضرر في هذا اللبس، الذي أراه من وجهة نظري وأنا أكتب في صفحة مخصصة للرأي، هو أن هناك استثمارات مالية كبيرة ستوجه للخارج، وعلى الرغم من الآليات والضوابط المعدة لهذا الغرض، فهي لن تكون سهلة التطبيق، وقد تكون وجهاً آخر للتستر التجاري الذي نعانيه داخلياً، بحيث يكون من نوع التستر التجاري خارج الحدود، أي أننا بعد أن تفوقنا في التستر التجاري الداخلي، بدأنا بالتوسع فيه خارج الحدود! ثم لا أعلم حقيقة ما الذي يجعل المسؤولين عن المبادرة يعتقدون أنه في حالة كان المستثمر خارجياً سعوديا فإنه سيقدم السلع الغذائية للمملكة عند الحاجة -دون غيرها- وأن المستثمر الأجنبي سيتوقف عن البيع للمملكة في حالة وجود أزمات غذائية؟ أي أن هناك افتراضا ضمنيا أن السعودي المستثمر خارجياً ''سيفزع'' للمملكة في وقت الأزمات! بل إن هناك افتراضا أن هذه ''الفزعة'' ستكون بأسعار أفضل من أسعار السوق، وذلك تحقيقاً لهدف المبادرة في استقرار الأسعار. وهناك افتراض أن الاتفاقيات الإطارية بين المملكة والدول الأخرى سيعمل بها وقت الأزمات، وسيقوم المستثمر السعودي بتصدير منتجاته إلى المملكة.
لقد مرت المملكة، وغيرها من الدول، بأزمات غذائية واقتصادية متنوعة، ودائماً من يمتلك المال يستطيع شراء ما يريد، وقيل شعبياً إن ''كداد في غير بلاده لا له ولا لأولاده''، ويقال في الغرب إن ''الكاش ملك''، لأن توافر النقدية في الأوقات الحرجة يجعلك تتصرف بحرية كاملة. هناك جهود كبيرة تقوم بها حالياً وزارة الزراعة لتنفيذ المبادرة على أرض الواقع، وكذلك فتح صندوق التنمية الزراعية أبوابه للمستثمرين في الخارج، وأخشى ألا تؤتي هذه المبادرة أكلها، وتبدد أموال استثمارية كبيرة، كان من الممكن استغلالها في بناء مخزونات استراتيجية كبيرة، وتوقيع عقود مستقبلية طويلة المدى مع شركات استثمارية خارجية، دون الحاجة إلى بناء كيانات إدارية معقدة وتشتيت الجهود في دول متعددة. ولا ننسى أن مسألة الأمن الغذائي تتم فعلياً بدعم المنتجات الزراعية الداخلية، وكان من الأولى أن تكون المبادرة -التي هدفها الفعلي هو الأمن الغذائي- أن تركز على الزراعة الداخلية ولا تحاول أن تمحو الخبرات التراكمية الطويلة التي اكتسبتها المملكة في مجال الزراعة، إلى درجة أن المملكة أصبحت تعتبر من أهم الدول الزراعية في المنطقة.