الإدماج المالي الآن

إن تمكين أفقر الناس في العالم من الوصول إلى النظام المالي من شأنه أن يطلق العنان لإمكاناتهم الاقتصادية، ويحسن حياتهم، ويعود بالفائدة على الاقتصاد ككل. لذا فمن غير المستغرب أن يصبح احتواء الفقراء وإدماجهم مالياً مكوناً مهماً من مكونات صنع السياسات العامة. والواقع أن البنوك المركزية والهيئات التنظيمية في مختلف أنحاء العالم تحمل لواء الريادة في جعل الإدماج المالي أولوية، فضلاً عن تفويضها التقليدي المتمثل في الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي.
إن الإدماج المالي يدور حول توفير الفرصة لنحو 2.5 مليار شخص من سكان الأرض لا يتعاملون مع المصارف ويفتقرون إلى الخدمات المالية لتمكينهم من المشاركة في النظام المالي الرسمي، وبالتالي المساعدة في انتشالهم من براثن الفقر وإدخالهم إلى التيار الاقتصادي الرئيس. إن الاهتمام بالإدماج المالي يَعِد بمجتمع أكثر تماسكاً ونموا وتنمية أكثر توازنا.
وعلاوة على ذلك فإن الأنظمة المالية تستفيد من اكتسابها قدراً أعظم من الشمولية والتقدمية. ذلك أن المستهلكين الإضافيين المشاركين في النظام المالي الرسمي سوف يساعدون في تعزيز الاقتصادات الوطنية، وبالتالي إثراء الاقتصاد العالمي. ومع انتقال البلدان النامية نحو مرتبة الدخل المتوسط، فإن الإدماج المالي يشكل مكوناً أساسياً للتقدم المستمر.
في البلدان حيث ترتفع مستويات الاستبعاد المالي، يُترَك المستهلكون للاعتماد على خدمات غير رسمية وغير منظمة. وكثيراً ما تنطوي هذه البدائل الرديئة على تكاليف باهظة يتحملها المقترضون - والتمويل الذي يكون عادة قصير الأمد للغاية بالنسبة للنشاط الاستثماري الإنتاجي. وعلاوة على ذلك فإن الافتقار إلى حماية المستهلك والأطر التنظيمية والإشرافية يعرض الأنشطة غير الرسمية إلى نقاط الضعف التي قد تلحق الضرر بالمقترضين وتعرض الاستقرار المالي للخطر.
إن زيادة إتاحة الخدمات المالية الرسمية لأولئك الذين ظلوا محرومين منها لفترة طويلة تتطلب إنشاء إطار تنظيمي متوازن. والواقع أن التنظيم القمعي الجامع، الذي ربما يكون ضرورياً في الأسواق المالية المعقدة التي لا يمكن التكهن بتحركاتها، قد لا يكون مناسباً في المجتمعات الريفية - أو الأسوأ من ذلك أنه قد يخنق الجهود الرامية إلى تشجيع الإدماج المالي.
إن التناسب يشكل جانباً مهماً من التنظيم، فهو يمكن التدابير الاحترازية التي تتناسب مع المخاطر التي لا بد من التصدي لها من دون تجاوز أو تقصير. وليس من المستغرب إذن أن تدفع المستويات العالية من الاستبعاد في البلدان النامية والناشئة صناع السياسات إلى تبني تنظيم متوازن متناسب، وبالتالي اكتساب المرونة اللازمة لتشجيع الإبداع في توفير الخدمات المالية مع الحفاظ على الاستقرار المالي في الوقت نفسه.
فقد عملت بنجلادش، على سبيل المثال، على تكييف الأنظمة المالية بحيث تتناسب مع مؤسسات التمويل الجزئي المتناهي الصغر. وقد ساعد هذا في تحفيز نمو التمويل الصغير المستدام للشركات المحلية المملوكة لنساء. كما ساعد أسلوب ''الاختبار والتعلم'' في كينيا في التعامل مع التنظيم في إطلاق العنان لبرامج تسليم الخدمات المالية بالاستعانة بالهواتف النقالة عبر نظام M-PESA، الذي يقدم للمستهلكين بديلاً آمناً ومريحاً للنقد.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة للتنفيذ الناجح للتنظيم المتوازن التي أسفرت عن قدر أعظم من الإدماج المالي من دون تعريض الاستقرار المالي للخطر. وفي ماليزيا، أدى تطبيق تنظيم العمل المصرفي بالوكالة ''الذي يعمل على حماية مصالح المستهلكين في حين يدعم نماذج الأعمال التي تتبناها المؤسسات المالية'' إلى توسع الخدمات المصرفية غير المتفرعة من أجل الوصول إلى مناطق ريفية كانت محرومة من هذه الخدمات سابقا.
وعلى نحو مماثل، نجح النهج ''المنسق'' في تسليم الخدمات المالية - الذي تتناسب بموجبه متطلبات فتح الحسابات المصرفية مع المخاطر، مع خضوع الحسابات منخفضة القيمة لقيود أعلى فيما يتصل بالمعاملات - في توسيع القدرة على الوصول إلى الحسابات الأساسية، وتخفيف مخاطر غسل الأموال. وفي باكستان وإندونيسيا تعمل السلطات، من خلال تحديد متطلبات رأس المال بالنسبة لمؤسسات التمويل الأصغر وفقاً لحجم التجمعات السكانية التي تتوقع خدمتها، على تمكين هذه المؤسسات من خدمة أسواق مختلفة بشكل مستدام.
وفي الآونة الأخيرة كان صناع السياسات في العديد من البلدان ينظرون في الدور الذي تلعبه هيئات تحديد المعايير المالية في تعزيز الإدماج المالي. وهم يركزون بشكل خاص على التحديات الخاصة التي تنشأ عندما يتم تطبيق المعايير الرقابية في البلدان النامية التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار المالي والإدماج.
ورغم أن المعايير العالمية تعكس كما يفترض مبادئ التناسب، فإنها توفر توجيهات غير كافية للهيئات التنظيمية الوطنية، والمؤسسات المصرفية، ومستشاري القطاع المالي الذين يحاولون تطبيقها بفاعلية في بيئات متنوعة. وقد أدى هذا الافتقار إلى الوضوح السياقي إلى ظهور تفسيرات شديدة التحفظ للتنظيمات - وبالتالي خلق حواجز غير مقصودة تحول دون الإدماج المالي. وسوف تتطلب معالجة هذا الأمر مدخلات من صناع السياسات الذين يتمتعون بخبرة عملية في تطبيق المعايير الدولية، خاصة في الاقتصادات الناشئة.
في الوقت نفسه، ومن أجل ضمان التقدم المستمر نحو الإدماج المالي، يتعين على الممثلين من الاقتصادات النامية والناشئة أن يلعبوا دوراً أكبر في تشكيل معايير المستقبل. وقد بدأ بالفعل التحالف من أجل الإدماج المالي، وهو عبارة عن شبكة من محافظي البنوك المركزية وصناع السياسات المالية من أكثر من ثمانين دولة نامية، يسهم في إيجاد تنظيم عالمي أكثر فاعلية وتناسبا من خلال تيسير المشاركة المتزايدة من قِبَل هيئات تحديد المعايير المالية. وفي شهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام، يعتزم البنك المركزي في ماليزيا دفع هذه العملية من خلال استضافة منتدى السياسات العالمية.
إن مثل هذه الجهود التعاونية بين الدول النامية تسفر في نهاية المطاف عن تعزيز التعاون الأوثق بينها ونظيراتها المتقدمة. وسوف يؤدي هذا إلى نتائج أفضل للنظام المالي العالمي، والاقتصاد العالمي الحقيقي، وفي المقام الأول من الأهمية الناس الذين استبعدوا من الاثنين لفترة طويلة للغاية.

خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي