اقتصاد منطقة عسير .. المتاهة والحل (2 من 2)
في نهاية المقال السابق أكدت أن هناك جهودا كبيرة وملموسة من أمير منطقة عسير الأمير فيصل بن خالد، فهناك عمل كبير ومشهود كي تتواصل مدن المنطقة فيما بينها وبين العالم المحيط بها بشبكة متميزة من الطرق، ورغم هذا العمل المتميز تبقى القضايا الجوهرية التي ذكرتها في المقال السابق بلا حل منظور، وهذا يستدعي بناء رؤية اقتصادية شاملة للمنطقة. فيجب على المنطقة أن تؤمن بما لديها من كوادر وأيد عاملة ماهرة، وأن السياحة ليست سوى رافد واحد فقط، بينما هناك مجالات اقتصادية واسعة وسوق رحبة، فلا نحجر واسعا، فمع كل الدعوات القديمة والجديدة لإنشاء صناعة سياحية في المنطقة إلا أنها لم تؤت ثمارها، ذلك أن السياحة في المنطقة ترتكز على الطبيعة التي خلقها الله، وهذه الطبيعة تشرق بشهرين فقط، بينما تغيب عنا طوال عشرة شهور، وهذه لا حل لها إلا أن نصنع شمسنا، وأن نعرف موقعنا التنافسي، ولا بد أن تعمل الإمارة مع جامعة الملك خالد للتعاون مع جامعات عالمية مثل جامعة فيينا، للقيام بدراسة اقتصادية حول الميزات التنافسية للمنطقة، وقياس حجم العمالة فيها ومواردها وأين أفضل الاستثمارات المتاحة، ويمكن إنشاء كرسي بحثي لهذا الغرض ينفق عليه عدد من رجال الأعمال بالتعاون مع الغرفة التجارية يهدف إلى معرفة أفضل توظيف لرؤوس الأموال المتاحة، ويجب أن ينتهي هذا البحث خلال عامين فقط. من المؤلم أن تجد لوحات تتناثر بعشوائية تدعو للمشاركة في مشروع حصر حضري، بينما لا تجدها تشرح هدفا واضحا ومعلنا عنه بكفاءة، كما يحزنك ألا تجد مشاركة واضحة لمؤسسة علمية كبيرة مثل جامعة الملك خالد. فلا يمكن التحرك إلى الأمام طالما جامعة الملك خالد منعزلة عن محيطها كمدرسة ثانوية، جامعة الملك خالد تمتد على طول المنطقة وعرضها، وهي تضم أكثر من 1500 عضو هيئة تدريس من الجنسين، وكذلك 70 ألف طالب وطالبة، فلا معنى لمثل هذا الانعزال والبقاء خارج منظومة المشاركة والتنمية.
من المهم إذا أن نرتكز على الجهود المؤسسية في البداية، فلا معنى أن ندعو رجال الأعمال إلى منطقة لم تكتمل خدماتها، ولم تسو شوارعها، ولا توجد مسارات واضحة فيها، فهذا المسار يفتح اليوم ويغلق غدا، وهذا المسار كان تجاريا اليوم أصبح سكنيا، وكان من الشرق إلى الغرب فصار من الغرب إلى الشرق، وفي قلب الطريق عمود من الكهرباء ورجل أمن في سيارته يصرخ ويمنع السيارات من الوقوف، ولا مواقف متاحة من أي نوع، وقد تجدها مغلقة بسيارة خربة، فكيف يأتي رجال الأعمال من بلاد الدنيا، ولشركاتهم أسماء كبيرة ليغامروا في منطقة تعج بهذه الفوضى وهذا الصراخ لمجرد أن لديها غابة؟ لن يأتي أحد ولو عقدنا لهم ألف مؤتمر واجتماع. هنا يأتي دور المؤسسات الحكومية، خاصة الأمانة، ومرة أخرى بالتعاون مع جامعة الملك خالد ممثلة في كلية الهندسة التي عليها أن تأتي بجامعات ومؤسسات دولية لدراسة هندسة الطرق في المنطقة، وكفى ارتجالا، المنطقة في حاجة إلى رؤية واضحة في مسارات الطرق داخل المدن وفيما بينها، رؤية تضمن تحول هذه الطرق إلى متنزهات بذاتها، متنزه دافئ تحوطه الأبنية السمراء، فيما بينها متعة للسير بالأقدام والتسوق على جنباتها، متعة للقاء رجال الأعمال في فنادقها الصغيرة الفاخرة لعقد اتفاقيات وصفقات كبيرة بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى، متعة للعائلة بمطاعم فارهة وحافلات تنقلهم بين الشوارع التجارية والفنادق والمطاعم ومن مناطق المجمعات السكنية بين الضباب إلى مناطق الحركة التجارية، التي ترتمي في أحضانها كل العلامات التجارية العالمية، هذا لن يحدث طالما تعتمد المنطقة على أفكار مؤقتة ارتجالية لحل مشكلة الشوارع ومواقف السيارات فيها. وطالما لم تنشأ شركة عقارية كبرى بدلا من الأفكار والمشروعات العصامية على غرار شركة إعمار تستثمر فيها المؤسسات الحكومية وأولها الأمانة والصنادق الحكومية ثم يتم تشجيع الناس على المشاركة فيها.
اقتصاد المنطقة ليس بالضرورة أن يعتمد على السياحة، إنما السياحة رافد إعلامي لتشجيع زيارة المنطقة، لكن هناك أراض شاسعة تصلح لإنشاء أفضل المستشفيات في العالم، والمنطقة بطبيعتها باردة صيفا وشتاء، وهي بهذا صالحة لصناعة الطب، ومن المؤلم أن تشاهد أفضل عقول المنطقة من الأطباء كل له ليلى وموال، فهذا له مستوصف أسنان خاص، وهذا له مستوصف ولادة، وهؤلاء استأجرهم المستشفى الفلاني لمدة ساعة والآخر لعملية ولهم في كل واد عيادة، كلهم على مستوى كبير من العلم والتخصص ومن خلفهم جامعة لديها أكثر من 20 قسما في علم الطب ومثلها في العلوم الطبية المساعدة، فلماذا لا يجمعون أمرهم بقيادة أمير المنطقة ومدير الجامعة لزيارة جامعات عالمية كبرى ومؤسسات طبية عريقة في العالم لإقناعهم من أجل الاستثمار في المنطقة وجلب أفضل المستشفيات في كل هذه التخصصات، كما يجب أن تعمل الإمارة بالتعاون مع مشيخة القبائل على خلق شراكة مع المجتمع تمنح حقوق امتياز في بعض المناطق والأراضي فيها، وهذا إن نجح سيكسر حاجز احتكار القبائل للمناطق الشاسعة بلا جدوى، ويخلق نموذحا اقتصاديا حديثا يمكن التعامل من خلاله بعيدا عن تعطل المشاريع المهمة في أروقة المحاكم. لا أتوقع أن يمضي هذا المشروع بهدوء، لكن إذا تم خلق برنامج واضح لحق الامتياز تستفيد منه القبيلة ماديا فإنه سيشجع على جذب استثمارات أخرى كبرى، خاصة في الزراعة.
وفي الزراعة، لا مفر من أن تقوم جامعة الملك خالد بإنشاء معهد متخصص يقدم شهادات عليا في الزراعة، ويقوم هذا المعهد بالتعاون مع الإمارة والغرفة التجارية ومعاهد أبحاث عالمية لدراسة الفرص الزارعية في المنطقة، خاصة بيشة وسهول تهامة، وكيف يمكن بناء مشروعات كبرى لجذب الشركات السعودية الكبرى والعالمية لهذه المنطقة ومرة أخرى من خلال مشروع الامتيازات. لقد برع أبناء المنطقة في تربية الأبقار، وثبت خلال تجربتهم صلاحية المنطقة لهذا النوع من الزراعة الحيوانية، وهناك صناعة سعودية كبيرة في هذه المجال، وفي المنطقة أراض شاسعة يمكن للشركات العمل من خلالها، وفق منظومة الامتيازات، كما يمكن خلق شركات صغيرة في القرى لهذا النوع من المشروعات لتوفير اللحوم، التي تصدر إلى العالم الخارجي المتعطش لمثل هذا النوع من الإنتاج الحيواني. وهنا لا بد من تطوير مشروع لدعم الأسر المنتجة في المنطقة، التي تعرف هذا النوع من العمل جيدا، كما أنه سيسهم في إعادة توطين الأسر في القرى، وهذا مهم جدا. ومشروع الأسر المنتجة ثبت نجاحه في المنطقة بشكل كبير، لكنه لم يجد اهتماما ولا رعاية بعد. لذا يمكن خلق كيان اقتصادي كبير يعمل على تحويل المنازل، خاصة في القرى إلى مزارع ومصانع صغيرة ومنح الأسر الآلة والمواد الخام ومن ثم تجميع المنتجات لتصديرها إلى خارج المنطقة.
هذا غيض من فيض، قدرة المنطقة على التحول إلى اقتصاد ضخم منتج يجد شبابها وظائف بلا حصر، وتجد المنطقة تنمية ذاتية بعيدا عن إرهاق ميزانية الدولة أو انتظار الدور فيها، وإذا كانت هذه أفكارا اقتصادية محصورة في مقال من جزءين وعدد من الكلمات فكيف إذا نجحت الجامعة بالتعاون مع الإمارة والأمانة في عقد مؤتمرات ومنتديات كبرى لذلك؟ لكني لم أر في الناس عيبا كنقص القادرين على الكمال.