لماذا التحليل المالي والاقتصادي عصيٌّ لدينا؟
التحليل المالي الاقتصادي الذي يهم أغلب الفعاليات الاقتصادية يدخل في دائرة الاقتصاد الجزئي كتحليل المشاريع وأداء الشركات بغرض إدارة الأصول أو الاستثمار أو التمويل. في اقتصاد يغلب عليه القطاع الحكومي يصعب أن تأخذ بالتحليل الجزئي دون تفهم البيئة الاقتصادية والمالية العامة ــــ فهذه هي القاعدة الأساسية التي تغذي المشاريع وتخلق الفرص وتحدّد آفاق المنافسة. البيئة العامة بدورها تعتمد على ثلاث ركائز: الأولى، هي طبيعة الاقتصاد الهيكلية، والثانية مدى دور السياسات والتشريعات في تصرفات الفعاليات الاقتصادية والثالثة توافر المعلومات. التحليل المالي والاقتصادي صعب لدينا لأنه في الغالب لا ينسجم مع هذه الركائز. لكي يكون التحليل منطقياً ومتناغماً مع الحاجة للتخطيط يجب أن يكون الهيكل الاقتصادي واضح المعالم في قابليته للاستدامة ووضوح الرؤية العامة وكفاءة القدرات التخطيطية.
الاقتصاد الجامع ''القادر على تجميع وتفعيل الطاقات المادية والبشرية لتحقيق أهداف وطنية'' يعتمد على الإنتاجية والإبداع والإدارة النابهة، وهذا مطلب كفاءة لم نصل إليه بالدرجة المطلوبة على الرغم من نجاحات هنا وهناك. فبعد عقود ما زلنا نتحدث عن تقليل الاعتماد على النفط والتخصيص والتوطين والتعليم والخدمات، لا تزال المصروفات الحكومية واعتمادها على النفط هي العمود الفقري للاقتصاد، ليس هناك ضرر في توظيف ما لديك إذا كانت هناك توجهات حقيقية للمستقبل، فالتوجهات أهم من الحالة دائماً. تنامي الطلب على النفط خلق حالة استثنائية، ولكن لا يمكن أن نعيش حالة كهذه للأبد. من الزاوية الجزئية هناك مَن يقول ببعض الموضوعية إن انتظار تصحيح في أسعار النفط قد يفقدك الفرص ــــ فكما يقول كينز ــــ قد تخسر كل أموالك على أمل أن ترجع العقلانية إلى السوق. ولكن هل لنا أن نرهن مستقبل بلادنا اقتصادياً على تذبذب سلعة واحدة للأبد؟ المراقب لاقتصادنا لن يجد صعوبة في وصفه بأنه متلقٍ ومستفيد من الأوضاع النفطية، ولكنه غير فاعل وقادر على أخذ زمام المبادرة. المبادرات ميدانها السياسات العامة والتشريعات القادرة على ربط وتوثيق أعضاء الهيكل الاقتصادي أفقياً ورأسياً. فهناك حاجة إلى كسر الاحتكارات في الأراضي والوكالات الحصرية وتصحيح عيوب الدعم الهادمة وتفعيل المنافسة وإقرار نظام الإفلاس والارتقاء بالقضاء لتقدير دوره في الاقتصاد، وخاصة رفع درجة الوعي والكفاءة في ديوان المظالم.
التحليل الهادف يصبح صعباً لأنه يجد نفسه في منطقة بين سهولة التحليل المنطلقة من فرص الاستفادة من مصروفات حكومية متصاعدة، ولكنها لا تتسم بمنطق اقتصادي سليم وبيئة سياسات وتشريعات لا تُعطى حقها من الانتباه والتركيز من صُناع القرار الاقتصادي المبعثر. سرعان ما تجد هذه البيئة طريقها إلى التحليل الجزئي فتتغلب الرغبة لاغتنام الفرص المفهومة موضوعياً. فطبيعة النشاطات الاقتصادية تدخل في نوعين، إما الإنتاجية ــــ بمعنى إضافة قيمة فيما تقدم كل فعالية اقتصادية أو استغلالية ''لا نقصد هنا أي إسقاط اجتماعي''، مثل المضاربة على الأراضي أو استغلال وكالة حصرية دون رقابة أو الاستفادة من التستر أو غيرها من النشاطات التي تدر أرباحاً دون قيمة للمجتمع ولكنها منطقية بحكم الواقع.
هذه البيئة العامة بجزئيها الكلي والجزئي بيئة ضيقة يتداخل فيها الكلي مع الجزئي ما يجعل التحليل صعباً وأحياناً متناقضاً، فكل مخاطرة كلية كبيرة ولكنها صغيرة جزئياً والصغيرة المدروسة جزئياً قد تصبح كبيرة كلياً لارتباطها بالصورة الأكبر.