يا «إخوان مصر» انتصروا مترفعين

حين يكون الغرض دنيويا تأتي روح هابيل وعجزه عن القتل في سبيل البلاغ ''لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ''. الترفع عن القتل لم يتركه دون دلالة واضحة لسببه لكي لا يتجه الفهم إلى العجز عنه، أو عدم القدرة عليه، أو عدم تكافؤ القوة مع الخصم، بل سبب أسمى وأعظم وأكثر خلودا ''إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ''.
السلطة ليست أغلى ثمناً من استباحة الدم الحرام، ولا تبرر الولوغ في الفتنة وأسبابها، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولمن كانت التقوى زاجرة للفعل منه، ولمن خاف مقامه عند الله ونهى النفس عن الهوى.
فما خير بخير بعده جهنم، وما شر بشر كان عاقبته الورع عن محارم الله ودخول الجنة، ينبغي مخافة الله في جرجرة بلد مسلم لمآل يعلم الله وحده منتهاه ومبلغه، وكم من الأرواح البريئة سوف يهلكها التطاحن على السلطة والحكم، وكم من أقوات الفقراء سيحول هذا الصراع دون الكفاية ورفع مؤنة عيالهم.
إن إمارتكم هذه، كذاك النعل البالي الذي يخصفه ابني الحسن، هذا ما قاله علي بن أبي طالب إلى أهل الكوفة في وجوههم حين بدأ الهرج والمرج!
وحين تكالبوا عليه في أول أمره لقبول البيعة، قال لهم: ''أنا لكم وزير خير لكم مني أمير'' لم يرغبها، لم يطلبها، لم يسع إليها .. وحين كان الأمر بالغ الحجة عليه في قبولها .. جعل باب الخروج منها مخلوعاً لا مفتوحاً ..!
هذه الروح هي التي تماثلها ابنه الحسن الزكي سيد شباب أهل الجنة الذي عصم الله به ''دماء فرقة عظيمة من المسلمين'' استرسل مع روح أبيه في الإخبات إلى الله أولاً، وفي رعاية حرمة دماء المسلمين ثانياً، والتي هي أهم من ـ السلطة ـ وأولى من الإمارة.
لم يكن خروج من خرج عليه شرعياً وقد تم الأمر له بالبيعة التامة من أهل الحل والعقد من أهل المدينة، وشيوخ صحابة رسول الله -وهم بقية خير أمة أخرجت للناس- المهتدون. إلا أن ثمن بقائه في السلطة سيكون باهظاً على مستوى فاتورة الدم، والفتنة، وإشغال المسلمين بالمسلمين، وعدوها يتربص بها المحن، ويغريها بالفتنة الكبرى التي تجعل المسلمين يمور بعضهم في بعض، ويأكل بعضهم بعضا، حتى تنتهي عن بقية من عجز وفقر وضعف تدره رياح الغزو الخارجي الذي تفرغ بالعدة والعدد، يترقب بلوغ العجز آخره، والضعف منتهاه، فينال البلاد، ويستعبد البقية الباقية من العباد، عاجزين.
هكذا هي مصر اليوم، كل قطرة دم لمصري هي عندكم ـ وهكذا يجب أن تكون ـ أثمن من الإمارة، وأثمن من عرشها، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سيحاسبكم عليها ''فكأنما قتل الناس جميعا'' وسيطول وقوفكم بين يديه عند السبب المبرر لها ''ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً'' أكثر من سؤالكم عن الإمارة وقد تركتموها مكرهين، العبد في سعة برحمة الله أن تجاوز الشرك به، وإن سلم من سفك الدم الحرام. وإلا فهو في ضيق شديد. الفتنة أشد من القتل .. والقتل عظيم.
عبد الله الصغير آخر ولاة الأندلس العظيم .. أدرك ببصره وبصيرته أن ثمن الإصرار على - السلطة - سيكون من دماء المسلمين فيها، فترك الجنات، والعيون، وقصر الزهراء الذي لم يبن مثله في البلاد، وحور كأنهن البيض المكنون، وقال إلى أمه: يا أم! أكون تاركاً ملكاً عظيماً لم ينصرني بني ديني لحفظه، ولا أكون الرجل الذي يسوق أهله إلى قتل مرذول، على مآل أعلم مغبته، وأدرك منتهى أمره.
هذه فرصة عظيمة لعودتكم إلى قلوب الناس الطيبين في أرض الكنانة، هذه فرصتكم لجبر ما انكسر، وجمع ما تفرق، فإن كان الفشل من عند أنفسكم، فهذه فرصة لنزع التجربة، وامتصاص نضجها، وهذا سبيل كريم للعودة إلى الحياة السياسية برفعة المترفع عن كل شيء، إن حضرت مصلحة مصر، ونفع المصريين.
وإن كان الفشل من أعدائكم في الداخل والخارج، والدولة العميقة من بقايا الحكم البائد، إن هذا نذير من النذر أن الوقت ليس وقتكم، وأن الظرف لا يعين، وأن الناس لا تحتمل، وأن السياسة نضج في القرار والفعل تعوزه التجربة والممارسة، والمعونة، والتسديد، والمدد، والسمع والطاعة. وهذا كله ليس متاحاً لكم، ولن يكون بوسعكم جمعه، ولو حرصتم.
هذه الفرصة الأخيرة فلا تضيعوها .. اخرجوا كبارا من الإمارة والسلطة، اتركوها ما سلمت مصر، وسلم أهلها ولا تبغوا الفتنة والفساد في الأرض في العض على عظامها ـ وتذكروا ''سلطان غشوم خير من فتنة تدوم''، وإن كانت الرفعة والترفع والتسامي في التنازل والتسامح والتقارب. فات على باغي الدم في مصر طلبه، وسقط أبناء الفتن في تيه بني إسرائيل، لا يهتدون سبيل الخروج.
اتقوا الله في مصر، وفي دماء المصريين، فليس برشد من جعل إمارته، وحكمه أولى منهما.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي