أين عقلاء مصر؟
تشهد مصر هذه الأيام صراعا داخليا لم تعهده أرض الكنانة منذ أزل. فالدماء تسيل، والأشلاء تتطاير، والأنفس تصعد إلى بارئها. نسوا عدوهم الحقيقي وأصبح المصريون يتقابلون، يضرب بعضهم عنق بعض، يسفكون دماءهم ويذبحون أبناءهم، كل يبحث له عن مبرر لقتل الطرف الآخر مرة باسم الشرعية، وتارة باسم الوطنية، وتارة أخرى باسم محاربة الإرهاب.
ونريد في هذا المقال أن نسلط الضوء أكثر على هذه القضية لنرى أين ستذهب الأحداث في مصر، وماذا يحدث بالضبط؟ وكيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ وكيف سمح المصريون لأنفسهم بأن يقتتلوا؟ وكيف تجرأ الجيش المصري أن يسدد رميه لشعبه بعد أن كان العالم يرفع له القبعات احتراما على وقفاته المشرفة إبان ثورة 25 يناير عندما وقف بجوار شعبه فحقن الدماء وصان الأعراض وحمى البلاد، بينما نراه الآن يصطنع المبررات ويروج الأكاذيب من أجل أن يفتك بشعب أعزل لا حول له ولا قوة. وفي الجانب الآخر كيف تمكن الإخوان من حشد الملايين والبقاء في الميادين منذ بزوغ الشمس حتى مطلع فجر اليوم الثاني يكشفون صدورهم للرصاص ويعرضون أنفسهم وأبناءهم للقتل ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة؟
وهذه الأحداث تبين بجلاء ضعف المقدرة القيادية والسياسية على إدارة شؤون الدولة لكلا الفريقين ''العسكر والإخوان''. فلقد أتيحت الفرصة للإخوان في الحكم وتمكنت الجماعة بالفعل من إحكام القبضة على صنع القرار في أرض الكنانة وتحقق لهم ما أرادوا عبر تاريخهم الطويل إلا أنهم أضاعوا تلك الفرصة -التي أظنها لن تتكرر- ولم يستثمروها كما يجب لسبب بسيط يتمثل في قلة خبرتهم السياسية وحداثة عهدهم بإدارة الدولة المدنية وعدم المقدرة على التعايش مع الغير وإقامة علاقات دولية متوازنة إقليميا ودوليا. عندما تم ترشيح الدكتور محمد مرسى ليكون أول رئيس مدني لجمهورية مصر العربية بانتخابات نزيهة لا غبار عليها وبدأ يمارس عمله كرئيس لدولة محورية لها ثقلها الإقليمي والدولي تشعبت به الطرق فلم يدر من أين يبدأ؟ وكيف يدير البلاد؟ وقد يكون معه الحق بعض الشيء فقد ورث دولة محطمة، متهالكة، مترهلة نخرها الفساد وتكون في داخلها قيم وعادات وأعراف شاذة، وتعودت مؤسسات الدولة على الفساد بكل أنواعه. كما أن أعداءه من التيارات الأخرى يتربصون به خوفا وحسدا وعندما لم يتمكنوا من الإطاحة به بالطرق القانونية لم يترددوا في أن يمدوا أيديهم إلى خارج مصر ثم لجأوا إلى القوة في عزله، وهاهم الآن يلفقون له التهم وقد يحاكمونه قبل أن يحاكموا مبارك، ونتيجة لكل هذا لم يستطع مرسي أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ورغم كل المعوقات التي واجهت مرسي وحزبه في حكم مصر إلا أن هذا لا يعد مبررا لإخفاقهم، فقد كانت هناك آليات مختلفة وطرق متعددة لإحكام السيطرة على البلاد لو أنهم يمتلكون البعد الإداري والبعد السياسي اللازمين لإدارة مرحلة ما بعد مبارك.
أما الطرف الآخر، وهم العسكر الذين أسقطوا مرسي وأحكموا القبضة على حكم مصر مرة أخرى، فليسوا بأفضل حالاً من الإخوان. فأول خطأ ارتكبوه هو عزل رئيس منتخب من جميع أطياف الشعب المصري بطريقة شرعية لم تشهدها مصر منذ الأزل، بل لم تشهدها الدول العربية كافة. إلا أن العسكر وأدوا الديمقراطية في مهدها بالتجرؤ على إرادة شعب كامل بعزل رئيسهم المنتخب، وهذا يدل على أن ثورة الانقلابات في الخمسينيات ما زالت تعشش في فكر الجيش المصري. ولو أنهم استطاعوا أن يضبطوا الأمن ويسيروا عجلة الدولة لتغاضى الناس عن انتهاكهم للشرعية أما أن يسقطوا رئيس البلاد، فهذا حكم بائس لا يقل رداءة عن حكم الإخوان.
أرى أن الإخوان والعسكر غير مؤهلين سياسيا وليس لديهم الخبرة الكافية في إدارة الدولة العصرية، وما هم إلا مجموعة عصابات تتنافس في الحكم بالكذب تارة، وبالتعتيم الإعلامي تارة أخرى، وبالقوة المفرطة تارة أخرى. وهذا يدل أن مصر شبه خالية من خبراء السياسة ولا يوجد بينهم رجالات دولة تخرج البلد مما هو فيه، لأن عهد مبارك الذي استمر 30 عاما دفن القدرات ووأد الطاقات ولم يعد قادة تخلفه في حكم مصر بعد رحيله، رجال يعدهم وينميهم ويدربهم كي يقودوا مصر إلى الأمام بعد رحيله لأنه كان مبيتا النية لإقامة حكم وراثي في دولة ديمقراطية على غرار حكم الأسد في سورية، إلا أن الظروف لم تسر على هواه. ونتيجة لكل هذا لم نر في عهد مبارك رجال دولة، بل مجموعة من العصابات تسعى للسيطرة على الحكم لمصلحة ذاتية باسم الدين وباسم الوطن وباسم الشرعية، والدليل بين أيدينا، فالإخوان تمكنوا من الحكم فلم يوفقوا والعسكر انقلبوا على الإخوان ففجروا البلاد إلى مستنقع من الدماء والأشلاء.
نتمنى من عقلاء مصر أن يأخذوا على أيدي كلا الطرفين وأن يكفوا أذى الإخوان والعسكر عن المصريين ومنعهم من تجييش الناس في الميادين والتوقف عن اتخاذ قرارات صبيانية غير مدروسة لا يعرفون عواقبها ولا يدركون مخاطرها ولن يتأتى ذلك إلا بالمصالحة الوطنية للخروج بالبلد من الأزمة.
وعلى عقلاء مصر بعد ذلك أن ينتخبوا مجموعة من أهل البصيرة والرؤى من خارج المنظومة العسكرية ومن خارج جماعة الإخوان، ويجلسوا على دائرة مستديرة ويقدموا حلا يخرج البلاد من هذا المأزق ويتم إبعاد العسكر والإخوان من قيادة البلاد سياسيا في المرحلة القادمة فليسوا أهلا لمهمة كهذا، ولكن لن يتمكنوا من نجاح مهمتهم إلا بالعودة إلى الوراء وإعادة الشرعية التي انتهكها العسكر.