رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المسروق.. مرآة الذات

مقطع انتهاب شاحنة عصير التوت في أحد الطرق السريعة، أرجعنا لمشاهد نهب الموتى في حادث مروع في مدينة أخرى، ودون قصد أو تعمد تعود للذاكرة الناشلون الذين تركوا الميت ـ بحادث مروري ـ في الشمس وركضوا بجنون للقبض على المبالغ النقدية التي كانت تتطاير في الصحراء المفتوحة. والتي كان من المفترض أن يودعها حين ينتهي إلى أقرب فرع للبنك.. إلا أن المنقدين تحولوا مع أول ظهور للمال إلى لصوص، ثم إنهم لم يحتشموا من أحد، ولم يستتروا من بعضهم بعضاً، وسرعان ما رجعوا بسرور الغانم بغنم عظيم إلى سياراتهم.. والابتعاد سريعاً قبل وصول أي دورية أمنية، وقد أنستهم الغنيمة ذاك المسلم الذي صعدت روحه إلى بارئها بتكرار الشهادتين والنزف الحاد الذي انشغل الجميع عنه بالحقيبة المالية التي تشظت وتبعثر ما فيها، فكانت سبباً كافياً كي لا يهتم به أحد حتى فاضت روحه.
في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي يتحول العابرون فجأة إلى قطَّاع طرق، وإن شاحنة التوت نموذج حي، وقد مثلت سقوطاً ـ تكوين رجل الشرق الشريف سقط فيما سقط، ليست عفة النفس، وليست عفة اليد عن المال الحرام، إن غاب الرقيب عليه، وإن أمكن الوصول إليه، ليس هذا فقط، بل سقطت أيضاً الغيرة والحشمة على العرض والنساء، إذ أنزل أحدهم ـ نساءه ـ للوقوف أمام لوحات السيارة التي تحمل الكراتين المسروقة من عصير التوت الشهير! هذه الوقائع لا ينبغي أن ننظر إليها بوصفها جنايات عارضة، في نسقها الاجتماعي الطبيعي، بقدر ما هي ـ كواشف ـ ومظهرات أكثر منها فضائح! هي مرايا، والمرايا لا تزيد عن عكس صورة كل ذات عليها، لا تضفي شيئاً، ولا تغير شيئاً، ولا تزيد منها شيئاً.. هي فقط آلة تمكنك وتمكن الجميع من رؤيتك كما أنت وكما هي حقيقتك.
هذه الوقائع جميعها وغيرها مثلها، برغم ما فيها من شعور مخزٍ، وسلوك معيب، وإحراج جمعي لنا جميعاً، إلا أنها تمثل حاجة بالغة الأهمية لقراءة الذات السفلية من المجتمع، وقراءة إلى أين يمكن أن تصل الأمور عند غياب الرقيب من جهة، وإلى أي مدى من الممكن أن نصل في انتهاك الحرام البين، والقبيح الظاهر! من جهة أخرى. ربما تكون هذه ''اختبارات كشف'' للتنقيب عن النفوس التي تجهز على الجريح من أجل سلبه، ولمعرفة إلى أي حد فشلنا في التربية الأخلاقية، وتهذيب السلوك، ورفع الإنسان إلى حالة تسامٍ، وطهر، وعفة نفس.
لا فقر مهما تعاظم يبرّر السطو على مال محتضر، ولا حاجة تسوّغ نهب كميات من عصير التوت من فوق سيارة غاب سائقها لطلب المساعدة! ولا خلق قويم في أول مراتبه يبرر سرقة جيوب الموتى وسياراتهم!
هذه الحوادث التي تتكرر، والتي تخزينا، وتؤلمنا، وتجعلنا أكثر تواضعاً تجاه ما ندعيه لذواتنا من صفات الكمال وتجعلنا أكثر تواضعاً فيما نزعمه من تحقيق الفضيلة الجمعية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية. كما تجعلنا نتواضع لتقرير حقيقة أن الخطاب الوعظي والديني، ورغم كل ما ينفق عليه، ورغم انتشاره لكل جزء صغير من الوطن، ورغم المليارات الهائلة التي هضمها طيلة سنوات طوال.. فشل في خلق مجتمع تعف نفسه من تسليب جريح، أو الورع عن عصير توت أصبحت سرقته ممكنة! ربما يجعلنا هذا نعيد مفاهيم العقوبة والجزاء، لما هو أكثر قدرة على عصمة النفوس، وصيانة السلوك. ربما جعلنا هذا نؤسس لنظريات لها صلة مباشرة بفساد ''المحكومين''، وتكوين رؤية عن الفساد الجمعي، أو البيئة التي ينشأ فيها الفساد بكل صوره وأشكاله. هذا المناخ المنبسط بالتخفف من وزر المال الحرام والتهوين من الإقدام عليه، وإطعامه الأبرياء الغافلين من الأبناء والآباء والزوجات! سقوط الحاجز النفسي الهائل من النفوس والعقول تجاه ـ مظالم العباد ـ وحقوق الناس. وغياب حس الأمانة حتى على سقط المتاع، ومرذول البضاعة. وهذا أمر مروع ومخيف ومقلق وشنيع.
هذا يعني أننا فشلنا إلى هذا القدر الدنيء من السلوك.. فينا، هذا يعني أن من بيننا من يجعل نساءه تستره ليتم سرقته.. وهذا يعني أننا ما زلنا يلجمنا الصوط. والخيزران والعصا.. أكثر مما ننتهي من ضمائرنا وديننا وكريم الأصول فينا. هذا يعني أن المدن آمنة مستقرة بخوف السلطان، لا بخشية القرآن. وهذا يعني أننا لسنا مؤتمنين على بعضنا إن حضرت القدرة، وغاب الرقيب.
هذه المشاهد هي قراءة للذات من خلال قاع المجتمع هذه المرة، من خلال تصاعد الجريمة، وتطور أنماطها، وأساليب تنفيذها، تلك الأساليب الوضيعة التي تسقط من أمامها كل ما يمكن تصوره من الحشمة والشرف والمروءة. سرقة جريح، ونهب ميت، وعدم العفة عن سقط المتاع، ومرذول البضاعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي