شهر رمضان وما ينبغي فيه
لن يترك إعلامنا العربي شهر الله، كما أراد الله له أن يكون ــــ ''شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ'' البقرة: 185.. فيما أتصوره: لو قدر البعث لميت ــــ أنساب عمره من بين أصابعه مذنبا ــــ أو مقصرا.. أن يعود حيا في ـــــ شهر رحمة الله ــــ رمضان ـــــ بكل يقين سيطوي راحته، ويطيل صمته، وتفكره، ولن يطوي قرآنه وصلاته. في شهر الله سينشر ذاته في أوقاته التي هي أفضل الأوقات عند ربه، وساعاته التي هي أفضل الساعات عند الله، وأيامه التي هي أحب الأيام في ذخيرة معاده، وزاد قيامته! دون ريب إن هذا الراجع من الموت والراجع من سكون اللحظات، وجمود الأعضاء، وسقوط الرغائب، وموت الشهوات، وجنون الملك، سيتوحد مع نفسه وقلبه وربه.. وهو في شهره شهر الله المعظم، الذي يلتقي فيه بالليلة التي يفرق فيه كل أمر حكيم، ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن، التي هي سلام هي حتى مطلع الفجر. بكل يقين الأغيار والشواغل، والشوارد ستكون قليلة، منحصرة، ضيقة، وبيقين أعمق، كل صوت لا ينتهي إلى ربه سيكون ضجيجا، وشتاتا، وعقوبة.. كما تنزل هذا الحس على قلب موسى بن عمران ـــــ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ــــ بعد أن رجع من طور سيناء، من البقعة المباركة، من على اللحظة التي ذاب كيانه، ووجوده، وذاب الوجود من حوله. بلحظة ''فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ'' (30) سورة النمل. سقط ساعة، إذ حس كل حس، وزال من قلب موسى كل قائم، وخلع من قدم نفسه كل حب لغيره ''واخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى''. حين ذاك.. وبعد منصرفه، وبعد تباعد خطوه عائدا من الحضرة العظمى.. ولم يحتمل صوت الآدميين! صار كل صوت يقع عليه كالزجاج المتكسر يؤذيه، كل قول من غيره ــــ ضجيج ــــ يقلق سكينته. كل معنى ليس في معانيه، ضلال.. هكذا تباعد موسى باكيا بجلال الرهبة، وبحب الجمال.. 40 يوما حتى عاد إليه ــــ الصبر ــــ مع الخلق، وعلى الخلق. بعد أن كان للحظة واحدة تامة مع الخالق.
رويت هذا عن ابن عمران عليه السلام، لكونه كان في دنيانا، وكانت له هذه اللحظة التامة الكاملة مع الله، وكان له هذا التجلي، وكان عليه هذا الفيض.
وشهر رمضان دون غيره من الشهور يكثف الحضور، ويكثف الجمع على الذات، ويكثف الفرص، ويجعلنا أقرب صلة.. من الغدق ''وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا'' أو بلاغ الرحمة لمن دنا واقترب وحضر. ولولا إعلامنا العربي، الذي سلب من شهر الله قرآنه وسلب منه خشوعه وصلاته وقيامه، وسلب منه البحث عن لحظة التجلي ولحظة القرب العظمى مع الله.
ــــ كل نفس ضالة بقدر من الضلال، وكل قلب يتلبس ظلمة، وكل باطن لا تفارقه الوحشة. تقوى وتضعف.. وشهر رمضان يأتي ليمدد بنوره وهديه ورحمته.. ويرفع بنوره ظلمات القلوب، وهذا ما ينبغي لنا أن نستحضر مقدماته، وألا نحرم ذواتنا عطاياه.
ـــــ كل قلب في شهر الله، يتولاه الأكثر حضورا فيه، والأقوى رغبة، والأطول بقاء، وإعلامنا العربي، باعد بين الناس وبين جمعهم على الله في حبه، في حس القرب الذي يزري غيره - كلحظة موسى التي رويتها لكم ــــ ذاك حس الجمع ــــ أرحنا بالصلاة يا بلال ــــ أي قبلها كان في تعب، أو بدونها هو في تعب. ولولا لحظات الجمع على الله بها لما زال عنه تعبه ولا تباعد.
ــــ 125 ــــ مسلسل لرمضان ــــ ومئات المسابقات، آلاف البرامج، في مجملها تمثل شتات النفس، سلبها، خطفها، إلى صورة تتحرك بمفردات تم لصقها على لسان قائلها، وبحركات تم تقريرها، وبهيئة رسمت تفاصيلها، لتنتهي إلى غواية تفويت الفرصة، وزوال لحظة الجمع بالله ومع الله وعلى الله. الملهاة قد تسلبك وقت اللقاء، ولحظة القرب، وفرصة البعث من الموت، وسجود وجودك مع الكون لله عند تنزل كلمة الله على قلبك أيها العبد المارق الشديد الضعف والعجز. متى يتجلى على قلبك: ''إني أنا الله رب العالمين''؟! ذاك أمر تركت له سبله، والاستعداد الدائم لتلقيه ونزوله على قلبك.. ورمضان وحده قادر على تخصيب الفرص.. دون غيره من الشهور كلها.