قضايانا الاجتماعية .. عودا على بدء

كنت، قبل ما يقارب العام، قد عرضت عدة قضايا اجتماعية مزمنة تحتاج إلى رؤية إنسانية وإلى حل يحفظ لنسائنا كرامتهن ويعطيهن حقهن المسلوب. ومن أهم القضايا التي نود العودة إليها، حقوق المرأة المطلقة، التي يرميها زوجها في الشارع بعد أكثر من 30 عاماً من الزواج السعيد، وذلك برضى ومباركة من المجتمع الذي لا يتعدى دورُه دورَ المتفرج، وربما الشامت. وسنعيد هنا الفقرة المتعلقة بهذا الموضوع كما نُشِرت في مقالنا السابق تحت الرابط الآتي: http://www.aleqt.com/2012/07/22/article_676429.html
''أما الحالة الثالثة التي نود التحدث بصددها في هذه العجالة، فتحتاج إلى ضرب مثال بسيط من واقع حياتنا. تزوج شاب وشابَّة على سنة الله ورسوله، وتعاهدا بموجب عقد النكاح أن يكون كل واحد منهما مخلصاً للآخر وشريكاً له في حياته. وبطبيعة الحال، كوَّنا أسرة تتكون من الزوج والزوجة، والذرية في معظم الحالات. واتجه كل من الزوج والزوجة إلى الوجهة التي تناسب وضعه الاجتماعي في مجتمع محافظ، من أجل أن يؤدي كل منهما دوره المطلوب منه. فالزوجة مكانها البيت، تقوم بجميع شؤونه وبخدمة زوجها وأولادها، وهي المسؤولة عن تنشئة وتربية الأولاد، وتلك مهمة مُقدسة تحتاج إلى مجهود كبير وصبر عظيم، وربما سهر طويل عند الحاجة. ولم تنس خدمة زوجها ومحاولة إسعاده وإزاحة هموم العمل عن كاهله، عندما يحضر إلى البيت مُنهكاً من العمل. يجد الزوج في مجالستها راحة البال والطمأنينة، ويرى في وجهها البشاشة والابتسام، وفي معاملتها التقدير وحسن الخُلق. وعندما يهم بمغادرة المنزل إلى العمل، تجدها بجانبه تودعه بالابتسامة نفسها التي قابلته بها بالأمس، وتدعو له بالتوفيق والعودة سالماً. وإلى هذه المرحلة من حياتهما الزوجية، لا تملك الزوجة من حطام الدنيا إلا أولادها وحب واحترام الزوج لها، وهذا كل ما تريده.
وكان الزوج ذا طموح وهمة ورأي سديد. فبمجرد أن تم الزواج وانتهت المراسيم التقليدية، شمر عن ساعديه وبدأ يبحث عن مصدر للرزق، وهو المسؤول الأول عن إعاشة أهل بيته - وفقه الله - مع الإخلاص وحسن النية، إلى امتهان الأعمال الحرة. ترعرع تحت ظل بيت يجلب الراحة للنفس مع زوجة مثالية. ونمَّى ماله حتى أصبح من أصحاب الملايين. وبطبيعة الحال، فهو لم يبخل على زوجته ولا على أولاده بشيء من متطلبات الحياة العصرية. ويشاركهم في كل مناسبة ويأخذ بخواطرهم ويضحي من أجلهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وتمر السنون ويكبر الأولاد، في حالة وجودهم، وربما أن كل واحد منهم ذهب في طريقه، كما تقضي بذلك سُنة الله في أرضه. وتبدأ الأمزجة تتغير، وتحصل بعض المشادات بين الزوج والزوجة وتتطور إلى مستوى لم تتحمله أنفس الطرفين. ويحدث الفراق، سواء برغبة أحدهما أو كليهما، لا فرق. وهنا يحدث الإشكال، فالزوجة التي حملت بالأولاد وعانت الأمرين من الولادة والسهر على راحة الأطفال وتربيتهم، وخدمت زوجها بكل حب وإخلاص سنين طويلة، ليس لها حق شرعي من أموال زوجها التي حصَّل عليها خلال عمر الزواج. فهي كانت تعمل وتؤدي المجهود نفسه الذي كان الزوج يقوم به - إن لم يكن أكبر - بل إن الزوجة كانت تتحمل ما لا يستطيع الزوج تحمله في سبيل خدمة الأولاد والزوج والعناية بشؤون البيت، إضافة إلى الحَمل والولادة. ولو افترضنا عكس الأدوار بين الزوجة والزوج، لوجد الأخير أن الحياة لا تُطاق تحت الظروف التي كانت الزوجة تعمل من خلالها. تخرج الزوجة من البيت صفر اليدين، ولا لها أي حق في مال زوجها. فإذا لم يكن ممكناً شرعاً ودون مِنَّة من أحد حصول الزوجة على نصيب معلوم من ثروة العائلة، فكأنما كانت تعمل طول حياتها عند الزوج بموجب عقد بين الطرفين مقابل أكلها وشربها وملبسها، لا غير. وحتى البيت الذي عاشت في كنفه وربت أولادها في رحابه ليس لها نصيب منه. هل يقبل العقل والشرع مثل هذه المعاملة للنساء؟''.
ونعيد عرض هذه القضية لعل الله يهيئ لها قلوباً رحيمة ومتفتحة تعي واجبها الديني والاجتماعي. فالسكوت على الظلم ظلام، والتغاضي غير إنساني. وقد عرضت المقال آنف الذكر على شيخ جليل وعالم فاضل، لأستنير برأيه، ولكن جواب فضيلته لم يخرج عما هو متعارف عليه، من عدم أحقية الزوجة المطلقة من مال زوجها، حسب ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. فقال - حفظه الله -: ''لا نعرف في كتاب ربنا، ولا في سنة نبينا، ولا في أقوال الصحابة، ولا في الأحكام المأثورة، أن هناك حكمًا شرعيّاً يلزم المطلق ببذل نسبة معلومة من ماله لطليقته''. انتهى كلام فضيلته.
ومع ذلك، فلست مقتنعًا ألبتة أنه ليس لها حق على الإطلاق، ويكون مصيرها التسول أو العيش في أحد بيوت العجزة، بينما زوجها وشريك نصف عمرها ينعم بثروته المليونيرية. فهناك شيء ما مفقود، وعلينا البحث عنه. وحالتان من الحالات التي مرت بذاكرتي، الزوجة ليس عندها أولاد، ووالداها قد انتقلا إلى رحمة الله.
وفي كثير من الدول المتحضرة، أوجدوا حلاً مناسباً يضمن للمطلقة بعض الحقوق على زوجها الغني، بدرجات متفاوتة. ومثل هذه القضايا الاجتماعية المزمنة تصلح لأن تكون أحد المواضيع العلمية المهمة لبحوث دارسي شهادات الدكتوراه، لعلهم يجدون ما يفتح الطريق لإيجاد حل دائم أو يقدمون اقتراحات عملية تقود إلى إزاحة كابوس الظلم الممارَس ضد الزوجة المطلقة. كفانا قبول وضع لا يحتمل القبول، وتغميض أعيننا عن إجحاف في حق أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا، ونحن مجتمع يطمح إلى المثالية. والأمر واضح وضوح الشمس. وعلينا أن نترك البحث عن أعذار تحول دون إيجاد حل لمعضلة طال أمد حلها، ونعترف بأن هناك قضية شائكة حلها بأيدينا ومفروض علينا، فلا يجب أن نتغاضى عنها لمجرد أن ممارسة الوضع الحالي كان قائماً منذ قرون. والزوج الذي لا يملك أدنى مستوى من الإحساس والشعور بالمسؤولية تجاه أم أولاده ورفيقة حياته لا يعدو عن كونه إنساناً فاقداً لإنسانيته. ولا يصح أن نترك الخطأ يتغلب على الصواب والأمور ولله الحمد متيسرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي