أين سيقودنا المخاض العربي
المراقب والمتتبع لشؤون الدول العربية يصاب بالدوار نتيجة تسارع الأحداث. كل شيء يجري فيها بسرعة البرق إلى درجة أنه صار لزاما على المختص في شؤونها مراجعة مواقفه ربما أكثر من مرة في يوم واحد.
والسرعة التي تسير بها الأمور في هذه الدول لا علاقة مباشرة لها بالنمو الاقتصادي والتطور العلمي والتكنولوجي وزيادة رفاهية الشعوب من خلال ترسيخ نظم حضارية مدنية متطورة للصحة والتعليم وأسلوب الحكم.
الحضارة والمدنية بأشكالها المختلفة تحتاج إلى استقرار سياسي وإلى قيادة تستمد وجودها في الأساس من قاعدة شعبية متينة وتؤمن بالحريات الأساسية للإنسان وحقه في الاختيار، وقاعدتها الذهبية تنبع من معادلة أساسها أن رفاهية الجماهير وحصولها على حقوقها كاملة دون تميز ــــ إنسانية واقتصادية وتعبيرية وسياسية وتعليمية ودينية وعقائدية ومذهبية وغيرها ــــ قوة وسند لها.
وأظن أن غالبية النظم العربية لا تؤمن بهذه المعادلة وإن آمنت بها فإن ذلك لا يتجاوز الأقوال وليس الأفعال على أرض الواقع. الشرخ بين القاعدة ورأس الهرم لا أظن بإمكاننا نكرانه وهذا في رأيي واحد من الأسباب الرئيسة لغياب الاستقرار السياسي الذي دونه لا يمكن لأي أمة أن تنهض حضاريا وتنمويا واقتصاديا وتربويا وصحيا وفي غيرها من الجوانب وإن طافت خزائنها بالذهب والماس.
والتاريخ العربي والإسلامي فيه شواهد حية على أهمية الاستقرار. الفترات التي يعم فيها الاستقرار هي الفترات الذهبية في مسار الحضارة العربية والإسلامية والفترات التي تعم فيها الفوضى وتسارع الأحداث، حيث لا يعرف المرء في الصباح ما ستؤدي إليه الأمور في المساء هي الفترات الكالحة.
والشعوب تدفع أثمانا باهظة للفترات الكالحة التي ينعدم فيها الاستقرار بالمفهوم الذي ذكرناه أعلاه لأنها تعيدها القهقرى إلى ما بعد النهضة الحضارية التي حققتها في فتراتها الذهبية ــــ أي إلى عصور التخلف والظلامية التي تهتز فيها كل الأسس المتينة التي أقامت عليها حضارتها ومن ضمنها الأسس الفكرية والعقائدية.
إن ما نلاحظه في أغلب الأمصار العربية اليوم ليس تخلفا اقتصاديا أو سياسيا وحسب حيث صرنا في كثير من الأحيان لا نميز بين العام والخاص، بل هناك قصور فكري وتربوي لاستيعاب المرحلة، الأمر الذي أفرز خلطا عجيبا من حالة عدم الاستقرار تتصارع وتتداخل فيه أفكار وعقائد وتوجهات لا رابط بينها.
في المخاض العربي صار كل شيء ممكنا ومقبولا وهنا يكمن الخطر المذهبي والطائفي المنحى الذي يضع توجهاته في مصاف المطلق ولا يقبل المناقشة ويكفر الجانب الآخر ويدعو علانية ليس إلى اجتثاثه بل إزالته عن الوجود جسديا، له من المكانة ما قد تفوق صاحب الفكر النير الذي يؤمن بالتسامح وقبول الآخر ويدعو إلى الحوار للتوصل إلى صيغة تنقذ ما يمكن إنقاذه بعد ضياع دول بأكملها.
والفوضى التي تعم العالم العربي يجري استغلالها باسم الدين والطائفة والمذهب مما أدى إلى ظاهرة بروز رجال الدين من الدعاة والشيوخ وتبوئهم مكانة خارج نطاق اختصاصهم وتواجدهم، رغم عدم مؤهلاتهم، في كل درب من دروب الحياة العصرية التي غالبا ما يتناقض واقعها الاجتماعي عن طريقة تفكيرهم. وهذا أخطر منحى تصل إليه الأمور. ولا أعلم إن كان يدرك أصحاب هذا التوجه الأذى الذي يلحقونه بالإسلام كدين متسامح وفكر حضاري نير وسراج لتبديد الظلام.
إقحام الإسلام ومذاهبه وطوائفه في فوضى أساسها أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية تعصف بالمنطقة العربية وتمسك بخيوطها دول لا ناقة ولا جمل لها بالإسلام ومذاهبه يعكس الفشل الذريع للقيادات العربية في إدارة شؤون شعوبها، حيث بدلا من جرها إلى بر الأمان تدفع بها صوب الخراب والهلاك.