رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الإعلام الاجتماعي و«المصداقية»

في السابق عندما نختلف فيما إذا كانت شخصية عامة غيرت كلامها أو أنها قالت فيما سبق خلاف ما تقوله الآن تماماً لا نجد ما نرجع إليه لنتأكد ونقول بالعامية ''ياليت كان عندنا مسجل وسجلنا كلامه السابق''، واليوم لم يعُد الأمر كذلك، فالهواتف الذكية المزودة بالكاميرات والإعلام الاجتماعي قاما بمهمة التوثيق على أكمل وجه، فما علينا إلا أن نعود للـ ''يوتيوب'' أو ''تويتر'' أو ''الفيسبوك'' لنجد الحقيقة.
نعم، فقد تغيرت الأحوال، ولم يعُد بالإمكان ''لحس'' الكلام أو المواقف الموثقة بوسائل التواصل الاجتماعي بسهولة دون ضرر بليغ بسمعة الشخصية العامة، حيث يصبح مثار شك في ''مصداقيته'' ما يجعل قدرته في التأثير بالآخرين تضعف شيئاً فشيئاً حتى تنعدم في ظل وعي عام كبير ومتنامٍ في إطار السقف الفكري لحضارة العالم الراهنة، التي لم يعد فيها أفراد أي مجتمع محكومين بنسق ثقافي داخلي فقط، إذ أصبحوا محكومين بالعوامل الخارجية بشكل يفوق العوامل الداخلية أو الذاتية.
يقول المثل الشعبي: ''إذا كنت كذوبا كن ذكورا'' أي عليك أن تتذكر جيداً روايتك الأولى، ولا تدع التفاصيل الصغيرة تنزوي في ثنايا الذاكرة فتتغير وتتبدل في كل مرة تروي فيها قصتك الكاذبة، وأقول: إنه بعد ثورة الاتصالات الحديثة أصبح هذا المثل غير مفيد، والأفضل أن تعاد صياغته ليصبح: ''لا تكن كذوباً لا تكن مفضوحاً'' وعليك أن تتذكر كلامك ومواقفك بشكل جيد وتتمسك بهما أياً كان، مهما تغيرت الظروف، وعليك أن تتمسك بما أنت عليه من فكر، وإن تغير فكرك وتغيرت مواقفك فاعترف بذلك أمام الملأ، لأن كل ما نطقت به أمام وسائل الإعلام التقليدي منها والجديد موثق، ولا يمكن لك أن تتملص منه أو تنكره دون أن تفقد مصداقيتك، وبالتالي سمعتك فقدرتك على التأثير.
من المعروف استراتيجياً أنك إذا أردت أن تنهي شخصية عامة مؤثرة وذات طموحات، فما عليك إلا أن تشكك بنواياها، من خلال التشكيك بمصداقيتها بعرض تناقضاتها وتعدد مواقفها وسلوكياتها، لتثبت أنها شخصية كاذبة ذات وجوه متعددة كمرحلة أولى، ثم تشغلها بمعالجة ردود الأفعال المترتبة على ذلك لتشتت جهودها وتضعفها كمرحلة ثانية، ومن ثم تنقض عليها بالوسيلة المناسبة بعد أن تكون أُنهكت وتهيئ الناس لسقوطها كمرحلة ثالثة، ولا شك أن وسائل الإعلام الاجتماعي سهلت مهمة التشكيك والتشتيت وتدمير السمعة لأصحاب الكلام والمواقف والسلوكيات المتناقضة التي لا تقوم على المبادئ، وإنما تتلون بتغير المصالح أينما كانت دون دراسة استطلاعية علمية ودقيقة وحديثة ومحللة، ومن خلال انطباعاتي الشخصية ومما أسمعه ممن هم حولي ومما أقرؤه في وسائل الإعلام الجديدة أستطيع أن أقول إن شخصيات عامة كبيرة وكثيرة بدأت بالتساقط شيئاً فشيئاً بعد أن كشف الناس زيف مبادئها وتلونها حيث تكون المصالح، وحيث تكون عاطفتها متناسية مواقفها وكلامها وسلوكياتها السابقة التي وثقت بشكل لا يدعو للشك، ومما ألاحظه أن جيل الشباب على وجه الخصوص بات لا يسمع لهذه الشخصيات العامة ولا يتأثر بها بتاتاً، وينظر لها بعين العطف والشفقة لكونها شخصيات مفصولة عن الواقع، ولا تعلم حجم التحولات التي تدور حولها، ولا تدرك أن تلونها أصبح مكشوفاً كالشمس في رائعة النهار وأن حديثها بات مجالاً للسخرية والتندر والضحك.
البعض ما زال يعتقد أن بإمكانه أن يتذاكى على النخب والعامة بالطرق والحيل القديمة التي كانت فاعلة إلى درجة كبيرة أيام تفرد الإعلام التقليدي وسيطرته على صناعة الوعي والتوثيق وهو مكشوف أمام الجميع بشكل يدعو للشفقة، ذلك أنه لم يدرك حجم التحولات الكبرى الناتجة عن تزاوج تقنية المعلومات بتقنية الاتصالات، حيث بات الجميع قادراً على صناعة المحتوى ونشره أو بثه وتوثيقه والمشاركة في الحوارات والإقناع بقوة تضاهي قوة الإعلام التقليدي، بل إن بعض من يستخدم الإعلام الجديد بات قادراً على التشكيك في مصداقية الإعلام التقليدي، والحد من قوته التأثيرية، وبكل تأكيد من لا يدرك كم ونوع التحولات ويتجاهلها سيتقادم ويتجاهله الواقع، ليقع في شر أعماله وتصريحاته ومواقفه.
ما هو معروف أن المعرفة تشكل موقفاً، وأن الموقف يشكل سلوكاً، وعندما يتناقض الإنسان فيما يقول ومواقفه وسلوكياته تتشوه سمعته ويفقد مصداقيته، فيصبح ما يضخه من تصريحات بلا جدوى أو مشكوكا به، وبلا أدنى شك هذا يصب في غير مصلحة البلاد إذا كان الشخص المتناقض متعدد الحديث والمواقف مسؤولاً في الحكومة أو الأجهزة الحكومية أو في مؤسسات المجتمع المدني أو في الشركات الكبرى الحكومية وشبه الحكومية أو الخاصة، ذلك أن أثر تناقضه وفقدانه للمصداقية المؤثرة لا يصيبه هو شخصياً، بل يصيب المنشأة التي يمثلها.
لا أتحدث عن ضرورة وجود المتحدث المثالي الذي لا يخطئ، وإن كنت أصبو لذلك، ولا أتحدث أيضاً عن المتحدث المتجرد الملتزم بالمبادئ الأخلاقية ـ وإن تعارضت مع المصالح ـ فهذا من النوادر، ولا أتحدث عن المتحدث الصديق الواضح الشفاف المتجرد في ظل سياسية ''سدد وقارب''، وإنما أتحدث عن ضرورة وجود المتحدث المنطقي الواعي لمستوى الوعي وتناميه من جهة، ولمستوى التوثيق واستدعاء المعلومة من جهة أخرى ليتحدث بطريقة علمية واستراتيجيات صناعة فهم مشترك مميزة، ليحافظ على مصداقيته وقدرته على التأثير الإيجابي بمن يستهدفهم في إطار خطط التنمية بأبعادها كافة.
ختاماً كلي أمل أن ينخرط المسؤولون في جميع المنشآت الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني في برامج تأهيلية تعزز مستوى فهمهم للواقع الفكري الجديد للمتلقين ـ خصوصاً الشباب ـ ومستوى فهمهم لنوعية وكم الوسائل الحديثة والفرص التي توفرها للتواصل الإيجابي المؤثر ومحاذيرها وكيفية التعاطي معها، ليحافظوا بالمحصلة على مصداقيتهم ومكانتهم وقدرتهم على التأثير الإيجابي في الشرائح المستهدفة بتصريحاتهم بما يساهم بالاستقرار والأمن والتنمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي