التدافع والصراع .. السنة الإلهية
من سنن الله في خلقه أن جعل التدافع بين الأمم والجماعات والأفراد نمطاً حياتياً متكرراً يظهر في كل الحقب الزمنية، وبصور وأنماط شتى حسب ظروف كل وقت سواء من خلال المناظرات المباشرة أو الكتابة الصحفية، أو تأليف الكتب أو عبر التقنيات الحديثة كالإنترنت بمحركاته المختلفة. وأودع لدى الإنسان الأسس النفسية المحركة والدافعة لظهور التدافع، سواء كان حاداً أو شرساً أو كان هادئاً ويمكن السيطرة عليه وتوجيهه. الصورة الحادة من التدافع تظهر على شكل حروب ونزاعات مدمرة بعضها لأمور مهمة وأساسية وبعضها الآخر لأسباب أقل أهمية، ويمكن تفادي الحروب من أجلها لكن الإنسان بتفكيره القاصر يجد الحرب والتدمير، والقتل أنسب الطرق لإنهاء حالة الصراع والاختلاف مع الآخر حتى ولو كان الثمن باهظاً جداً.
عبر تاريخ البشرية حدثت حروب بين المجتمعات في صورتها البدائية على المراعي وموارد المياه كما حدثت على ناقة أو من أجل شرف وكرامة وقد دوّن التاريخ هذه الأحداث وأصبحت الأجيال تتذكرها كلما جد جديد في واقعهم، ولعل أبرز ما يتكرر ذكره هذه الأيام نخوة المعتصم حين حرك الجيوش انتصاراً لمن نادت وامعتصماه لكن مثل هذا السبب تكرر، ويتكرر بشكل يومي في عالم اليوم، ومع ذلك لم تلامس أذن المعتصم أو من يشبهه.
ترى ما السبب؟ هل عدم الاستجابة تعود لتغير في القيم أم المصالح السياسية، أم تغير في تكوين القادة في تفكيرهم، وفي مشاعرهم، كل هذه قد تكون أسباباً، لكن المؤكد أن المعتصم ونخوته غائبان.
التدافع الفكري بين المفكرين والعلماء، خاصة في حالة علاقة الإنسان بالإنسان وتكوينه المشاعري والقيمي والعقدي ساحة كبيرة، وساخنة في الوقت نفسه، ولعل الساحة في العالم الإسلامي تثبت هذا الشيء، فالحراك الفكري يظهر على أشده بين المدارس الفكرية، وبين العلماء والباحثين، وأحياناً على أمور بسيطة إن لم تكن تافهة حيث تؤلف المؤلفات، وتعد الردود، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل كل فريق يحشد فريقه بهدف تحقيق هزيمة قاسية في الطرف الآخر، ويصاحب هذا نزاع وشقاق وكراهية وعداء يصل بالبعض إلى مقاطعة الآخرين لإحساسه أن الاختلاف معه يستوجب المقاطعة لإجبار الآخر على القبول برأيه والتسليم به، وكأنه هو من يمتلك الحقيقة. إن ما نشهده من صراع في المجتمعات الإسلامية قاطبة، ودون استثناء يؤكد حقيقة التدافع التي تؤدي بالمتدافعين في بعض الأحيان إلى الانتقام والتصفية الجسدية وإن لم يكن ذلك، فالتصفية المعنوية وإظهار الطرف الآخر بالمخطئ، والجاهل.
كم من العلماء دفعوا حياتهم ثمناً لمجرد اختلافهم مع آخرين، وكم من أثمان اقتصادية وتنموية دفعت لأجل هذه الخلافات التي تظهر بين فترة، وأخرى بمحركات، ودوافع قد تكون فردية، أو تنظيمية. إن الاضطراب في المفاهيم والفكر هو أحد مخرجات هذه الحالة من النزاع، أو التدافع الذي قد يصحح بعض الانحرافات أحياناً لكنه يحدث في أحياناً أخرى لأمور لا يستوجبها الوضع، وهذا يستهلك الوقت والجهد وتضيع بسببه على الأمة ومجتمعاتها فوائد جمة.
التدافع سنة إلهية باقية ما وجد البشر ''ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله''.
إن التدافع لا يقتصر على الأفراد أو على الجماعات ذات المصالح، بل يمتد إلى التدافع والصراع بين الأمم والمجتمعات، وكم من الحروب حدثت بين الدول، ولعل الحروب التي نشهدها ونقرأ عنها في كتب التاريخ كما في الحربين العالميتين لهي أكبر دليل على هذه السنة الإلهية.