في صيف الرياض .. نساء تحت الشمس
مع مرور أيام الصيف تقترب شمس الرياض من درجات الحراراة القصوى التي تتجاوز 46 درجة مئوية، مع شمس لاهبة، خاصة في فترة الظهيرة. هذه ليست نشرة بالحالة الجوية عزيزي القارئ، ولست بهذا محرضا على السفر إلى الخارج في هذه الأيام المضطربة على مستوى العالم، ولا إلى الداخل مع الأسعار المستعرة، بل فقط لنعرف أنه الآن وتحت سياط هذه الشمس اللاهبة، ولمدة تتجاوز الست ساعات هناك نساء وأطفال يسألون الناس الصدقة عند إشارات الرياض المرورية. ولست أتحدث عن مشكلة حضارية، بل عن جريمة إنسانية مع الإصرار عليها. فعندما انتقلت إلى الرياض قبل نحو ثلاث سنوات، وفي مثل هذا الوقت تقريبا لاحظت كثرة النساء مع أطفالهن أمام الإشارات المرورية وفي عز الظهيرة، درجة حرارة وصلت إلى أكثر من 48 درجة على مقياس سيارتي، وأنا بالكاد أستطيع الحفاظ على تركيزي من شدة الحرارة، بينما هؤلاء النسوة في الشارع تحت الشمس منذ الصباح حتى خروجي من عملي بعد الرابعة عصرا. هل هن سعوديات؟ أم عاملات هاربات؟ أم أنهن قدمن للحج ولم يعدن إلى أوطانهن؟ ثم لماذا يحملن الأطفال في هذه الشمس الحارقة؟ ألا يوجد لهؤلاء الأطفال بيت ومأوى؟
سأزيدك من القصة عجبا، فقد لاحظت أنه مع انتهاء الصيف وحرارته الرهيبة، ومع عودة نسمات الخريف البديعة تختفي هؤلاء النسوة من الطريق، وليس لهن أثر طوال الشتاء حتى الربيع، أكثر من تسعة أشهر لا يظهرن في شوارع الرياض إلا إذا اشتدت الحرارة مع عودة الصيف. إنها ظاهرة تستحق الوقوف عندها، خاصة مع صرخات المؤسسات الحقوقية في كل العالم حول منع العمل خارج المباني في فترات الظهيرة، فكيف بالتسول والحاجة إلى الناس. فإذا كن سعوديات، فمن المعيل ولماذا يستجدين الناس هكذا؟ وأين "حافز" و"العمل" و"نطاقات" وأين الأسواق النسائية منهن؟ وإن كن عاملات هاربات أو متخلفات عن العودة لبلادهن بعد العمرة والحج، فأين تصحيح الحالة والجوازات عنهن؟ القضية أكبر من مجرد تسول أمام الطرقات، بل إن هذا التوقيت الذي تظهر فيه هؤلاء النسوة يجعل الشعب السعودي يبدو وكأنه بلا رحمة، وإذا كان هناك أكثر من 100 ألف عائلة ثرية، فلماذا لم يستطع رجل منهم يحمل في جيبه بطاقات إلكترونية تسديد ديون دولة إفريقية، كف يد هؤلاء النسوة في هذا اليوم اللاهب بكفالتهن، والنظر في شؤونهن؟ هكذا ينظر لنا العالم وهكذا يتساءل.
لكني متأكد جدا كما أنت متأكد عزيزي القارئ أن خلف هذا الأسلوب من التسول مهنة، فقد امتهن هؤلاء النسوة ومن معهن هذا الأسلوب لاستجداء عطف الناس، فالحرارة رهيبة وهذه المرأة مع وليدها منذ الصباح ولم تجد شيئا تتغذى به والطفل، هكذا سيتعاطف معها الجميع ويدفعون بسخاء، بل إن بعضهم ممن "لا يسألون الناس إلحافا" قد يشفق عليها مع ضعف حاله في المقام الأول ويعطيهن ما خصصه لطعام أسرته أو كل تعبه في ذلك اليوم، وبينما هن مستغنيات مستكفيات فقد سرقن الناس باسم التسول. ولست هنا أجزم بغيب لكني ألاحظ نمطية في عملهن مع بدايات الصيف بالذات، وكذلك طريقة توزيعهن على الإشارات، أضف إلى ذلك أن هؤلاء النسوة قادرات على العمل، بل صبورات بدرجة هائلة، فالوقوف تحت شمس الظهيرة في صيف الرياض لا تقاس بأي عمل آخر مهما كانت قسوته وشقاؤه. وبينما هؤلاء النسوة يصبرن على الحراراة الرهيبة، فإن هناك أعمالا أقل جهدا من هذا وتحت الظلال، بل في أجواء مكيفة وطعام مناسب جدا، فإذا لم يجدن عملا فأين وزارة الشؤون الاجتماعية وأين الضمان وأين 13 مليارا من الزكاة عن مثل هؤلاء النسوة؟ لهذا أنا متأكد أن المسألة فقط مسألة مهنة، رغم قسوتها، لكن يبدو أن دخلها كبير جدا ليبرر مثل هذا المجهود الضخم، فإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن هناك عصابات منظمة تعمل على قهر هؤلاء الناس ويجب التصدي لها بحزم.
المسألة إذن لا تخلو من أربعة احتمالات، أولها أن هؤلاء النسوة سعوديات فقيرات جدا حتى العدم لم يجدن عملا ولا معيلا، وهنا أهيب بوزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة العمل النظر بسرعة في شأنهن. أو، وهذا هو الاحتمال الثاني، أنهن غير سعوديات هربن من كفلائهن أملا في حياة أفضل فوقعن في الفقر القاهر، وهنا أهيب بالمديرية العامة للجوازات، خاصة مع المهلة التي منحت من وزارة الداخلية لتصحيح الأوضاع، أن يتم النظر في شأنهن وإصلاح الحال البائس هذا، أو، وهذا هو الاحتمال الثالث، أنهن (سعوديات أو غير سعوديات) يمتهن هذا العمل ويجدن من ورائه ثروة مناسبة تبرر هذه المشقة الهائلة، وهنا لا بد من وقفة حازمة من وزراة العمل والشؤون الاجتماعية، لأن العمل أصبح متوافرا اليوم. الاحتمال الرابع أنهن ضحية عصابات منظمة تفرض عليهن عملا بكل هذه القسوة، وهنا لا بد من تدخل وزارة الداخلية لإيقاف هذه المأساة الإنسانية وتحرير هؤلاء النسوة من سجانيهن.
وعلى كل حال، فإن بقاء هذه الحالة على ما هي عليه، أمر لا يليق بالمملكة العربية السعودية في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين، الذي طالما أكد أنه بخير طالما شعبه بخير.