هل سقطت عقيدة المظلومية في سورية؟
ما يحدث في سورية يجب أن يُفهَم بتحليل شامل يتعدى كونه صراعًا داخليًّا، أو النظر إليه من زاوية أن ما يجري هو فقط جريمة تُرتكب ضد الإنسانية وإبادة جماعية واضطهاد وسلب حقوق المواطنين، لكن هو أبعد من ذلك بكثير، هو مخطط لتغيير الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. هذا المخطط بدأ بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران لمواجهة الصحوة الإسلامية في محيطها السني، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبروز أو إبراز الثقافة الإسلامية على أنها العدو القادم للغرب. ونجحت الثورة الإيرانية بنفسها الطائفي الرسمي والشعبي من تحقيق الهدف الرئيس من إنشائها - على الأقل بالرؤية الغربية - في خلق صراع مذهبي داخل الأمة الإسلامية، أدى إلى التنازع والفرقة، ومن ثم تحييد وإضعاف مواقفها تجاه قضاياها المصيرية. لذا لم تكن التصريحات النارية الإيرانية ضد الغرب وإسرائيل إلا شعارات جوفاء وضجيجا إعلاميا، لم يكن ليزعج أو يخيف القوى الغربية، بل إنها على العكس تماما كانت تسير في اتجاه تعزيز شقة الخلاف، وتحقق المخطط الغربي في تشويه صورة الإسلام وإظهاره على أنه نظام دموي لا يرعى حقوق الإنسان ولا ينسجم مع الحضارة الإنسانية. وتحقيقا للسياسة الطائفية الممنهجة وبث الفرقة بقصد السيطرة على قيادة العالم الإسلامي وتحويله للمذهب الصفوي، تم اختلاق مصطلحات الممانعة والتصدي. وباسم المقاومة قام النظام في إيران وسورية وحزب الله بأعمال إرهابية داخل الدول الإسلامية، بل تنفيذ أنشطة إجرامية في بيت الله الحرام وفي مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم- تتنافى مع الحد الأدنى المشترك والمقبول بين المذاهب الإسلامية. لقد أخذت الجمهورية الإسلامية في إيران على عاتقها تصدير الثورة والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، ورفعت شعار نصرة المظلوم، ودعت لتحرير القدس، ونددت بالولايات المتحدة وسمتها الشيطان الأكبر كغطاء إعلامي فقط ليمنحها نوعا من الشرعية واللعب على عواطف العموم والسذج وتحفيزهم للغوغائية وخلط الأوراق، لتبدو إيران المنقذ والنظام السياسي الوحيد بنسخته الإسلامية الديمقراطية، مع أن الواقع على عكس ذلك تماما، فأغلبية الشعب الإيراني، خاصة الأقليات، تعاني اضطهادا وتنكيلا وحرمانا من أبسط حقوقها. كما أن إيران التي تبدو إعلاميا مشاغبة وتتحدى الغرب تسير في ركبه، وتتعاون معه في تنفيذ أجندته في المنطقة. ألم يتم تسليم العراق على طبق من ذهب لإيران؟! بل إن احتلال العراق ومن قبله غزو أفغانستان تم بتواطؤ ودعم ومساندة من إيران للولايات المتحدة. ومع ذلك ظل البعض يؤمن بفكرة التعايش مع الجارة المسلمة مع كل الدلائل التي تفضح خيانتها للأمة. وجاءت الأزمة السورية لتكشف الغطاء عن الوجه الحقيقي لإيران وأعوانها في المنطقة، وعلاقتها القوية مع الغرب، فحتى أولئك في الوطن العربي الذين كانوا يرون في إيران القوة الإسلامية التي تقف في وجه إسرائيل والغرب، وأنها نصير المظلومين انكشف لهم زيفها واتضح نفسها الطائفي. فالحرب الدائرة في سورية في حقيقتها حرب إقليمية، يستخدم فيها الصراع المذهبي والتحالفات الدولية سعيا إلى تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، ما يجعلها على درجة كبيرة من الأهمية ليس للمقاومة السورية وحسب، لكن لدول المنطقة التي تعاني التهديد الإيراني. وهذا يحتم إدراكها أنها تهديد للأمن القومي بدخول المنطقة مرحلة حرجة من تجاذبات القوى الإقليمية والعالمية بمشاركة إيران وحزب الله اللبناني كطرف في الصراع الداخلي في سورية بدعم من روسيا وسكوت مخجل ومقصود من الدول الغربية والولايات المتحدة. لذا يتحتم على دول الخليج العربي لعب دور يقلل على أقل تقدير من السلبيات المحتملة للنتائج والصراع الدائر إن لم تكن رؤيته كصراع لتعديل ميزان القوى والتصدي للمد الإيراني.
إن العقيدة التي تقوم عليها إيران وحزب الله هي عقيدة المظلومية، التي تم نسجها حول أحداث تاريخية لتسخيرها في بث الفتنة وإعادة أمجاد دولة فارس بتصوير الجيل الأول للأمة، الذين قاموا بفتح فارس والروم وجاهدوا بأرواحهم وأموالهم مع رسول الله، على أنهم ارتدّوا ولم يقوموا بحمل الأمانة؛ ليكون ذلك مدعاة للتشكيك في الدين وإصابته في مقتل، ليخترعوا بعده مذهبا صفويا جديدا يقوم على تسييس الدين كمنطلق لأطروحتهم، وليس تدين السياسيين أسوة بالرسول الذي كان خلقه القرآن. وبدا أن العزف على وتر المظلومية وتضخيم الأحداث التاريخية وإخراجها عن سياقها وتأجيج الكراهية والسب والشتم وبث الاتهامات والأكاذيب للرعيل الأول للأمة - ممن قام عليهم الدين، وشاركوا في تأسيس دولة الإسلام وكانوا من الزهاد حكاما ومحكومين – المنفذ لتحطيم الدين الذي أزال دولة فارس! وظلت هذه العقيدة المسير للنظام الإيراني وأتباعه والموجه لسياساته وتعامله مع دول الجوار. وهذا ما يصعب من الالتقاء والتوافق والتعايش مع إيران، بل إن نظرتها التوسعية ترى أن بعض الدول الخليجية جزء من أراضيها. إن احتلال إيران الجزر الإماراتية وما أحدثته من قلاقل وتصريحات خارجة عن المألوف والعرف السياسي في البحرين تؤكد هذا التفكير الاستحواذي العدائي. إن فكر المظلومية السياسية المشرعنة عقديا والمبنية على نقض الآخر وإضمار العداء لا يترك مساحة للتعايش، إنما عداء مستحكم يتحين أتباع المذهب الصفوي الفرصة للانقضاض على من يرونهم أعداء حتى من يدينون بالمذهب الشيعي من العرب.
لقد سقطت عقيدة المظلومية والدفاع عن المظلومين حينما قررت إيران وحزب الله مشاركة النظام السوري في جريمة سفك دماء الشعب السوري، والاستمرار في سلب حقوقه السياسية والاقتصادية التي ظل يعانيها على مدى عقود منذ تولي عائلة الأسد الحكم باسم حزب البعث. ومن المتناقضات أن تتضامن حكومة دينية (إيران) وحزب ديني (حزب الله) مع نظام لا ديني (حزب البعث)، إلا إذا كان الحس الطائفي هو القاسم المشترك بينهم. وما ترتكبه إيران من جرائم في العراق وسورية ينسف عقيدة المذهب الصفوي التي ظل الإيرانيون وأتباعهم يروجون لها، وهو الدفاع عن المظلومين حتى لا تتكرر بزعمهم المأساة التاريخية. وهكذا اتضحت أكذوبة المظلومية، وتأكد أنها من أجل تمرير مشروعها التوسعي، الذي يتفق مع المخطط الغربي. النتيجة الأهم والدرس المستفاد من الأوضاع في سورية أنها كشفت عن الوجه الحقيقي للثورة الإيرانية وحزب الله كأعداء للأمة من داخلها .. فهل يعود من انساقوا وراء إيران إلى رشدهم ويعوا تلك الحقيقة؟ حقيقة إن عقيدة المظلومية قد سقطت!