«ببلي» والرقص على الصابون
من يرقص على الصابون سقوطه مسألة وقت ليس أكثر. وهذه الخدمة جعلت من نحبهم يرقصون على الصابون بالمال اللدن الطري، بالحجر الأصفر المبهج للقلب الذي يتنكر له من عجز عنه، ويوليه شغفا جما إن حضر، واقترب، وبات قريب المنال.
ممتنون بحب أكثر، لكل الذين ترفعوا، ممتنون أكثر لكل الذين تباعدوا عن بيع حبنا لهم لشركات الاتصال، ممتنون للذين لم ينقلبوا على مشاعرنا الطاهرة تجاههم، بأن يجعلونا سلعة برسم البيع لمن يدفع الثمن، وفي لحظة إجزال العطية، وإسباغ العوض!
بكل حب طاهر.. نشكر- الكبار- الذين لم يسقطوا في اختبار بيع محبة الناس لهم، للذين صدقوا ما عاهدوا الناس والله عليه، والصدق النقي من الغرض، والحب المترفع عن التكسب به.
كما هو في كل مرة، وكما هو يتكرر دائما عبر التاريخ، في كل زمان قريب أو متقادم، المشكلة ليست في ''التدين'' ولا في الواعظين ورجالات الدين.. ولكن العطب، والخطل في النماذج المشوهة التي تأخذ اسمه. وتتكسب به، وتبذله لمن يدفع الثمن.
في عرف الكبار أن محبة الناس ليست قابلة للمقايضة، بل هي نعمة جليلة من الله المنعم المعطي سبحانه، يُدارى أطرافها بدوام الشكر. فبالشكر تدوم النعم وبالكفر زوالها، وتبدلها، وتغيرها.
صاحب الفكرة جاء دون ريب، من بيئة غير بيئتنا، وانتحلها من خلق لا يشابه أخلاقنا، لأنها فكرة تستند على بيع صوت المشاهير على من يحبهم! عوض أن تتجه هذه الشركات إلى معالجة المشاكل الحقيقية لجمهورها المتسع بفضل الله ــــ سبحانه وتعالى ــــ وأن تفرض على ذاتها تحدي التفوق على منافسيها من خلال الخدمة، والسعر، والجودة.
ما زال كثير من شركات الاتصالات العربية، تستجلب أرباحها من خلال الودع وقراءة الفنجان وإبطال السحر، وجلب الزوج الذي لم يستحضره الحظ! ولم يكتبه قدره المنتظر المترقب له.. ما زالت تبحث عن أموال من خلال السيقان، والخصور المتمايلة.. وإثارة العصبية لشاعر، ولمغنٍ وراقصة! وتحويل شاشة التلفزيون إلى مساحة مفتوحة للقمار الذي يرسل ربح المليون للمتصل الأكثر.. أي أن تغري الفقراء ببذل المزيد من قوت عيالهم طمعا في ثراء محتمل يأتي من خلال لعبة الحظ، وربما إن أعطيتها أكثر .. تفوز وتربح!
ببلي تجارة صوت! بيع الحب، بيع رضا الناس، بيع اهتمام الناس بك، وإقبالهم عليك، والتفافهم حولك، على هذه الشركات ذاتها، مقابل أن تدفع إليك جزءا صغيرا مما تغنمه من محبيك الذين نحلوك حبهم الصادق.
هذا الحب يظهر لي مشروطا بالمسؤولية الكبيرة تجاهه، ومشروطا بعدم التكسب منه، ومشروطا بعدم بيعهم لكونهم بكل بساطة أثمن من أي ثمن. وأعلى وأشرف وأسمى من كل قيمة.
أعلم أن بعض الذين رضوا قد تعجلوا مع طيب نياتهم، وطهر قلوبهم أو هكذا أحسب وهكذا أظن، وهكذا أحتمل، إذ ليس بوسعي أن أتصور أن الذين من المفترض أن نتعلم منهم جميل صفات كرم النفس يبيعون صوتهم علينا، ويقايضون بنا مالا من شركة اتصال تتربح من هذه الصلة السامية بيننا.
غاندي مجوسي! رجل يعبد النار ويقدس بقرة حلوبا أو ضامرة هي مقدسة عنده كل شيء فيها ومنها مقدس في غاية التقديس، وفي منتهى الجلالة والتعظيم! إلا أنه يحب الناس بصدق، ويحب مساعدتهم بصدق، ويحب تبني قضاياهم بصدق!
حين قال له المنتدب البريطاني إن بريطانيا العظمى تبذل له مليون دولار سنويا مقابل صوته لصالح بريطانيا وتمديد البقاء فيها ''هذا المبلغ يعادل مائة مليون الآن''.
قال: صوت غاندي هو صوت الهند وشعبها.
والهند وشعبها ليست برسم البيع، يا صاحب السمو!
وغاندي ودون صوت الشعب لا يساوي روبية واحدة تبذلها بريطانيا العظمى له!
أحسب الذين وافقوا، رقصوا على الصابون، فكان السقوط مسألة وقت، الذين اعتذروا عن البيع ربحوا، وعبروا الاختبار وعبروا الغواية الأولى.
الأهم الآن.. أننا تعلمنا من هذه التجربة أن سبيل الربح ليس في الطرق السهلة، وتعلمنا أن الحجرة الواحدة من المال الحرام في أي مكان تدعو على صاحبها بالخراب حتى ينهدم وتعلمنا أن ما نكسبه من محبة الناس يجب أن يكون لهم وحدهم، وألا يكون لمن استودعونا قلوبهم وثقتهم فجعلناها برسم البيع بنظام خلو رجل، وجعلنا صوتنا لهم أجرة يجب أن يبذلوها. وذاك من أعظم صور الكفر بالنعمة الموجب لزوالها.
إنها زلة كريم اغفروها أيها الناس.. ولا تعلقوها على أعناقهم ولا تحفروها في قلوبكم، فإن عادوا لمثلهم فتيقنوا أنهم ليسوا جديرين بحبكم، وإن الرغبة في زاهد فيك نقصان عقل.