رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل يعي المسؤولون أهمية تخصص الإدارة العامة؟

يقع على عاتق الإدارة العامة (الإدارة الحكومية) مسؤولية تحويل الإرادة السياسية والتوجهات العامة للدولة إلى مشاريع وسلع وخدمات وضبط حالة الاقتصاد الوطني عبر سياسات مالية ونقدية. كما تلعب الإدارة العامة دورا كبيرا في إعادة توزيع الدخل، أحد أهم الجوانب الأساسية في تحقيق العدالة والرفاهية الاجتماعية. إن الأصل في تنظيم الاقتصاد الاعتماد على آلية السوق في تحقيق الكفاءة في استخدام الموارد بإنتاج سلع وخدمات تلبي احتياجات ورغبات أفراد المجتمع نوعا وكما وتكلفة على شرط أن تعمل في ظل المنافسة الكاملة. وعلى الرغم من جميع الإيجابيات لآلية السوق، إلا أنها تفشل في تحقيق العدالة الاجتماعية ومنع الاحتكار وضبط الاقتصاد وتوفير السلع والخدمات العامة، وربما كان ذلك مدعاة لوجود سلطة عامة تكون طرفا ثالثا تحكم السوق وتضبط العلاقة بين المتعاملين فيها حتى تقلل من الآثار السلبية وتعظم الجوانب الإيجابية الناتجة عن التبادل بين المنتجين والمستهلكين. لذا من المفترض أن تكون قرارات المالية العامة الأداة الاقتصادية للإدارة العامة حيادية (كفؤة), بمعنى ألا تشوش على عمل آلية السوق، لكن في الوقت نفسه توفر سلعا وخدمات مطلوبة اجتماعيا. تلك السلع والخدمات لا يستطيع القطاع الخاص تقديمها نظرا لطبيعتها التي تتصف بأنها لا تجزأ ولا يمكن حجب الانتفاع بها، وبالتالي لابد من استهلاكها استهلاكا جماعيا مثل شوارع المدن، ما يعني بالضرورة أن يكون الشراء شراء جماعيا من خلال السلطة العامة (الإدارة العامة). التحدي الذي تواجهه الإدارة العامة في تقديم السلع والخدمات في أنها ملزمة بصناعة قرار يطبق على جميع أفراد وفئات المجتمع بالتساوي على الرغم من تفاوت تفضيلاتهم، ما يؤدي إلى عدم تحقيق كفاءة اقتصادية في استخدام الموارد على مستوى الأفراد حتى إن تمت تلبيتها على المستوى الجماعي (المجتمع ككل). لذا يتم وصم الأجهزة الحكومية بتدني مستوى كفاءتها مقارنة بالمنشآت الخاصة، وهي مقارنة غير عادلة. إذ إن الإدارات الحكومية مسؤولة عن تلبية جميع متطلبات المجتمع المتعددة والمتفاوته وتحقيق المصلحة العامة عبر نقاشات عامة ومفاوضات مطولة للتوصل إلى صيغة سياسية توافقية لنوع وحجم ومستوى مرض للخدمات، لكن ليس بالضرورة يعظم العائد الاقتصادي.
هذا قدر الإدارة العامة في مواجهة تحدي الموازنة بين الكفاءة الاقتصادية والقبول السياسي (رضا الجمهور)، وهي معادلة صعبة ومعقدة ومرتبطة بتحقيق المصلحة العامة التي لا يمكن إدراكها من الجميع، وبالتالي لا تتضح أهميتها. على سبيل المثال لا يلقي كثيرون بالا لمشكلة التلوث البيئي والنظافة والصحة العامة على الأقل لا تستحق - في رأيهم - تخصيص موارد مالية للحد منها، بينما يستولي عليهم الاهتمام بالسلع الاستهلاكية التي ربما أضرت بهم صحيا واقتصاديا. إن المصلحة العامة خفية لا ترى كما المصلحة الخاصة التي تتحقق بمجرد الإنفاق للحصول عليها. فهناك فجوة بين الإنفاق الحكومي والمنافع المتحققة منه، ما يجعل من الصعب على الأفراد في المجتمع الربط بين المخصصات المالية الحكومية والمنافع، ما يجعلهم يرون الإنفاق الحكومي قليل العائد عكس حقيقته. وعلى أن الإدارة العامة هي اليد الظاهرة المحركة للاقتصاد، لكن تأثيراتها خفية بعكس آلية السوق اليد الخفية ذات التأثيرات الظاهرة، ما يجعل القطاع العام يبدو أقل منفعة مقارنة بالقطاع الخاص! والحقيقة التي لا لبس فيها أن القطاع الخاص لا يمكن أن يتطور وينمو إلا في ظل إدارة عامة تعمل بكفاءة عالية، لأن القطاع الخاص في حاجة إلى بنى تحتية وخدمات عامة. لذا فإن القطاع الحكومي هو الذي يقود التنمية الوطنية وليس القطاع الخاص. ومن الخطأ الفادح أن يُعتقد أن بمقدور القطاع الخاص عمل ذلك فقط لأنه يتميز بالكفاءة والإنتاجية. فليس المهم صعود سلم التنمية، إنما الأهم وضعه على الحائط الصحيح، أي أنه لا يكفي فقط الاهتمام بزيادة الإنتاج، لكن نوعه ومستواه وإلى أي مدى يحقق تنمية مستديمة ومتوازنة وينقل المجتمع إلى مستويات أعلى من التحضر والقوة الصناعية والاقتصادية. وهذا ما لا يستطيع القطاع الخاص القيام به لسيطرة المصالح الخاصة بمفهومها الضيق وبدافع الأنانية. والمتأمل للقطاع الخاص السعودي يجد أنه يقتات على الإنفاق الحكومي ويقيم صناعات وأنشطة تجارية تحقق له الأرباح، لكن في معظمها لا تضيف للاقتصاد الوطني ولا تتناسب مع مستوى كفاءة الموارد البشرية الوطنية المؤهلة، وربما كان السبب وراء ارتفاع نسبة البطالة على الرغم من قوة الاقتصاد المالية، ولا أقول الإنتاجية.
وعلى الرغم من أهمية الإدارة العامة التي تؤثر قراراتها في شريحة كبيرة من الناس، إلا أنها ما زالت مهمشة أكاديميا وظلت أقسامها تتقلص ويتم إلحاقها بكليات إدارة الأعمال التي راجت وذاع صيتها، وسيطر على الكثيرين وهم أن إدارة الأعمال هي الحل في رفع القدرة الاقتصادية، ومن يقول بذلك يضع العربة أمام الحصان ويعطل التنمية الوطنية. فإذا كانت إدارة الأعمال معنية بالتجديف (بكفاءة) فإن الإدارة العامة معنية بالتوجيه (بفاعلية)، وبالتالي لا يمكن الخلط بين أدوار التنفيذ والتوجيه. ومن العجيب أن نجد دولا رأسمالية تنادي بتطبيق اقتصاد السوق كالولايات المتحدة وبريطانيا وقد تطورت فيها أقسام الإدارة العامة لتصبح كليات، بينما نجد في دولة نامية يشكل الإنفاق الحكومي نسبة كبيرة من الدخل الوطني تتقلص فيها أقسام الإدارة العامة أو أن ينادي البعض بإقفالها! يقول ودرو ويلسون الكاتب الأمريكي قبل ما يقارب قرنين من الزمان ''إن تطبيق الدستور أهم من كتابته'' في إشارة إلى أن تنفيذ الإرادة السياسية يحتاج إلى إدارة حكومية فاعلة وكفؤة. سيكون من الخطأ الفادح أن تُهمل الإدارة العامة كتخصص أكاديمي، لأن ذلك سيؤثر سلبا في الأداء الحكومي، وهو السبب الرئيس وراء الكثير من المشاكل التي تواجهها المجتمعات النامية، وما أحداث الربيع العربي عنا ببعيد. فهل يعي المسؤولون عن التنمية الوطنية أهمية الإدارة العامة كتخصص ويسارعون لتطويره والاهتمام به؟ سيكون ذلك من مصلحة الوطن واستجابة للمتغيرات على الساحتين الداخلية والخارجية، فكيفما تكن الإدارة العامة تكن التنمية وقوة المجتمع وتلاحمه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي