بدء تعافي الاقتصاد الياباني
ظل الاقتصاد الياباني لفترة طويلة من الزمن في حالة ركود على الرغم من معدلات الفائدة الصفرية، وبرامج التحفيز المالي التي فشلت ليس فقط في أن تخرج الاقتصاد من الركود الذي وقع فيه، وإنما ترتب عليها زيادة نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي عند أعلى المستويات بين الدول الصناعية، وهو يتزايد بمرور الوقت مع إقدام الحكومة على تحديث البنى التحتية القديمة وإصلاح أضرار تسونامي آذار (مارس) 2011، وكذلك مواجهة متطلبات الرفاهية الاجتماعية المتزايدة نتيجة لانتشار شيخوخة السكان.
منذ أن تسلم رئيس الوزراء الحالي ''شينزو آبي'' السلطة وهو يتبع سياسات اقتصادية جديدة تتسم بأنها أكثر هجومية في التعامل مع مشكلات الاقتصاد الياباني أطلق عليها ''اقتصاديات آبي'' Abenomics، وأحيانا تسمى سياسة ''الأسهم الثلاثية'' لأنها تستند إلى ثلاثة أبعاد أساسية هي التحفيز المالي، والتوسع النقدي، والإصلاحات الهيكلية التي تعمل لجعل اليابان أكثر تنافسية.
يتشكل البعد الأول من سياسات اليابان الحالية في تبني سياسات مالية توسعية وذلك من خلال حزمة إنفاق 97 مليار دولار، من ناحية أخرى، فقد أقرت الحكومة ميزانية ضخمة لعام 2013/2014 بنحو 92.6 تريليون ين من المتوقع أن تسهم في استمرار الإنفاق الحكومي مرتفعا.
البعد الثاني يتمثل في سياسة نقدية هجومية تستهدف مضاعفة الأساس النقدي وتحقيق معدل تضخم مستهدفا 2 في المائة بحلول عام 2014، ومن ثم سياسة معدل صرف تستهدف خفض قيمة الين، الذي انخفض بالفعل بنحو 20 في المائة خلال الأشهر الستة الماضية الأمر الذي ساعد على نمو صادرات الشركات اليابانية الكبرى.
أما أهم الإصلاحات الهيكلية التي تستهدف رفع القدرة التنافسية للاقتصاد الياباني فتتمثل في تحرير التجارة مع أوروبا والدول المجاورة، وتحسين خدمات العناية بالأطفال لإتاحة فرص أكبر أمام الإناث للمساهمة بصورة أكبر في سوق العمل، وزيادة الاستثمار في رفع القدرة الابتكارية للاقتصاد الياباني.
ساعدت السياسات الاقتصادية اليابانية على رفع أسعار الأسهم إلى مستويات قياسية مقارنة بمستوياتها خلال السنوات الخمس الماضية، مدفوعة بالسيولة الضخمة والتوقعات حول مستويات الربحية الأعلى التي يمكن أن تحققها الشركات اليابانية في ظل تحسن معدلات النمو الاقتصادي المتوقع. فقد ارتفع مؤشر نيكي لبورصة طوكيو بنحو 75 في المائة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي كاستجابة للتوقعات حول أثر السياسات الجديدة للحكومة، كما ارتفعت درجة الثقة بالاقتصاد الياباني بشكل كبير بما يمهد لنمو أعلى في المستقبل.
هذه السياسة استطاعت أخيرا أن تحرك الاقتصاد الياباني في الاتجاه الصحيح، فقد أظهرت بيانات النمو الاقتصادي في الربع الأول من هذا العام أن الاقتصاد الياباني قد حقق معدلا للنمو أعلى بكثير مما كان متوقعا. فقد اقتصر النمو السنوي في الربع الرابع من العام الماضي على 0.3 في المائة، بينما كانت التوقعات تتكهن بتحقيق معدل نمو ربع سنوي بمعدل 0.7 في المائة في الربع الأول، غير أن الحكومة اليابانية كشفت أخيرا عن أن معدل النمو المحقق في الربع الأول من هذا العام بلغ 0.9 في المائة، أو ما يعادل 3.5 في المائة على أساس سنوي، وذلك في إشارة إلى نجاح السياسات التي تتبعها اليابان حاليا.
العوامل التي ساعدت على هذا النمو هي بشكل أساسي نمو الإنفاق الاستهلاكي والإنفاق على المساكن الجديدة والإنتاج الصناعي، وزيادة الصادرات، فقد ترتب على الخفض الذي حدث في قيمة الين تشجيع الصادرات إلى الخارج، فقد ارتفعت الصادرات بنسبة 3.8 في المائة في الربع الأول من هذا العام، بينما ارتفع الإنفاق الاستهلاكي والذي يشكل 60 في المائة من حجم الناتج بنسبة 0.9 في المائة، في الوقت الذي نما فيه الإنفاق الرأسمالي بنسبة 0.7 في المائة، إضافة إلى ذلك شهد الإنتاج الصناعي والتوظف تحسنا محدودا. لكن معظم النمو الحادث في هذا الربع يعود أساسا إلى الطلب الحكومي، في الوقت الذي ارتفع فيه الإنفاق الخاص مدفوعا أساسا بالطلب على المساكن، والتي زادت بصورة حادة نتيجة الاندفاع نحو الشراء لتجنب الرفع المتوقع في ضريبة المبيعات المزمع إدخالها في اليابان في المستقبل القريب.
هذا النمو سيعزز عزم الحكومة على المضي في تعديل سياساتها المالية للحد من الوضع المتدهور للدين العام وذلك بفرض ضريبة المبيعات. ذلك أن ضريبة المبيعات المقترحة لكي تحقق النتائج المأمولة منها تحتاج إلى نمو مرتفع للاقتصاد الياباني، ولا شك أن بيانات النمو الأخيرة تهيئ الظروف لإطلاق مثل هذه الضريبة، التي يتوقع أن يتم إصدارها، إذا ما سارت الأمور على نحو جيد بحلول 2014. فهل تكون هذه نقطة التحول المنتظرة في الاقتصاد الياباني؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التأكيد على أن معدل النمو المرتفع المحقق في الربع الأول لا شك يعد من العلامات الإيجابية حول أداء الاقتصاد الياباني في ظل سياسات التحفيز الهجومية التي تتبعها الحكومة اليوم، ولكن الأمر الأهم هو في مدى استدامة ارتفاع معدلات النمو، ولذلك ينبغي التحذير من الإفراط في التفاؤل حول مستقبل النمو في اليابان. فمهمة الحكومة الحالية ليست سهلة، لأن الاقتصاد الياباني في حالة ركود منذ عقدين من الزمن تقريبا، ومن المهم للحكومة اليوم التأكد من أن جهود دفع النمو تسير على نحو مستدام لكي تعزز جهود استعادة النشاط الاقتصادي في المستقبل.
المشكلة هي في الأساس الهش نسبيا الذي يستند إليه هذا النمو، فعوامل عدم التأكد المحيطة بالاقتصاد المحلي والمخاطر المحيطة بالاقتصاد العالمي يمكن أن تجهض هذا النمو، ولكي تستمر استدامة معدلات النمو المرتفع لا بد من استمرار النمو في الإنفاق الاستهلاكي الخاص والإنفاق الاستثماري للشركات بشكل أساسي، بينما النمو في الاستثمار لا يسير على النحو المطلوب، في الوقت الذي نجد فيه أن النمو الحالي مدفوع بعوامل الطلب المصاحبة لسياسات التحفيز والناجمة عن الزيادات الحادة في الإنفاق الحكومي على المشروعات العامة.
من ناحية أخرى، فإن أهم مخاطر السياسة النقدية الحالية هي احتمال ارتفاع الأسعار، الذي على الرغم من أنه أحد مستهدفات السياسة الحالية، إلا أنه في ظل ثبات الأجور حاليا في الاقتصاد الياباني، قد يؤثر سلبا في النمو، فهناك تخوف من أن يترتب على السياسات التضخمية التي يتبعها البنك المركزي انخفاض الطلب الاستهلاكي، أكثر من ذلك فإن نية الحكومة فرض ضرائب جديدة على المبيعات لا شك ستكون له نتائج وخيمة على النمو، وأيا كان الوضع فما ينبغي التأكيد عليه هو أنه من الواضح أن الاقتصاد الياباني بدأت الحياة تضرب فيه من جديد.