رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حين يلتقي السعوديون بأنفسهم

كل خطأ عارض يفضح غربتنا، وكل زلة قدم لشريف منا تفضح بعدنا عن ''رحماء بينهم''. نحن نبات الصحراء الذي لملمه على ذاته الجوع، وبعثره الري، وباعد بينه الشبع! قبل عطايا الله لنا من هبات بطون الأرض.. كان السعوديون أجلى نبلا.. وأجزل كرما.. وأسبغ رحمة.
الراحل مع قلة الزاد، فيما مضى من زمن لا يموت جوعا، ويقيل عوزه ــــ ابن البر ــــ بكرمه، وإيثاره على نفسه، وجميل مروءته.. كل هذا والراحل غريب، و فرصة التلاقي تتعذر، والعطية والبذل والكرم لا سبيل لردها، ولا سبيل للتكسب المؤجل منها، بل هي نفوس كريمة يؤذيها عدم البذل في موارده، ونفوس نابعة بالخير الحبس والقبض على ذاتها لا تحتمله ولا تقدر عليه.. فتفيض به نبعا عذبا وفراتا لمن يستحقه ولمن لا يستحقه. في الجاهلية كان: يبقى من المال الأحاديث والذكر! ولو لم يحرّم الله الزنا لحرّمته على نفسي لما فيه من الغدر.. ولئيم الفعل! والسموأل بن وائل.. وذبح ابنه بين يديه فداء في إجارة مستجير، ولا يسلمه ولا يشي به، بل ولا يتركه يتباعد عنه حتى ينجو إسماعيله الذي تم ذبحه فعلا على صخرة الشرف والمروءة، وما سفحت عليه عين، ولا بكت عليه أم.. خشية أن ينال المستجير بهم ما يؤذيه، أو يجعله يشعر بذل المقامة فيهم! وحاتم الطائفي يجود بذبح ــــ فرسه ــــ لإعرابية وقفت على رأسه في يوم ندر المال فيه، والمرعى وبيل، والعيون حائرة تتلمس من السماء رحمة بقليل من مطر! توارى بعيدا يبكي فقد أعز من يحب! إلا أنه لم يملك خيار الاعتذار وقد تباعد سيرها وطال في رجاء قصده، وهي تمني مع كل تعب أطفالها بكرم حاتم.. وعطاياه!
اللحظة الراهنة أقسى مما نتصور، وأبغض من أن توصف.. كل موقف يتصف برذيلة بقدر من المقادير، وكل عطية هي دين مؤجل، أو سلم صعود لرغبة خبيئة، وكل خطيئة لا يجللها ستر، ولا أحد يلقي على صاحبها عباءته حتى يفرغ منها.. ثم يتوارى وقد سترته المروءة، وستره كرم النفس، وستره النبل في مواقف الرجال.
اللحظة الراهنة هي ــــ ''تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى''. كاتب جميل وقور، سابغ الفكر، يكتب عبارة ''وما سيكون'' في حديث عن مخلوق يجبر المعنى على ــــ الرؤية المستقبلية ــــ التي تنسجم مع المقال، ومفرداته، وتنساق مع الدلالة فيه. وهي التي لا يساعد السياق على غيرها. وإذا الواقعون فيه، وعليه كأنهم ضواري طال بها الجوع وقد حضر لحمها الحي!
أين تلمس العذر؟ أين الحمل على وجوه الخير؟ أين التأويل إن تعذر التفسير في الرد عن المؤمن؟ أين قواعد الفقه أن الكلمة لا تفسر بالكفر إن صدرت من المؤمن ولو من وجه واحد من تسعين وجه بخلافها! إنها البعد عن رحماء بينهم.
ما أكثر التحريض على السقط من الكلام! وما أفحش الإنكار لمن خطئ بلسانه، في حظيرة اللئام! وكأننا مجتمع لا تعيش في قلوب أهله رحمة، ولا يحب المرء فيه أحدا ممن حوله.
هذه هي اللحظة التي يجب أن يلتقي السعوديون بأنفسهم، أن يلتقي المجتمع السعودي المعاصر، بتاريخ حضارة ــــ الإنسان ــــ ورقيه على هذه الأرض الطيبة المباركة، أن يعود لصفات الكرم من بداوته، وصفات النبل والشرف من رجاله وأن يفتح قلبه على التنوع الذي لم يخرج من مدينة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حتى يهود بني قينقاع وقريظة وكانوا وغيرهم في كرامة جوار كريم ونبي رحيم.
وفي هذه المرحلة التي يراد للعرب أن تقتل نفسها بسلاحها، وأن تريق دمها بيدها، وأن تهدم بيتها بيديها وقوتها. وهذا فعل من غضب الله عليه. ومن نسي الله فجعل عقابه أن أنساه نفسه وباعد بينه وبين قلبه وعقله.
هذه لحظة عودة السعوديين إلى أنفسهم، لكي يلتقطوا الفقر من البيوت العفيفة عن الطلب، وقد هد عزيمتها الإملاق.
هذه لحظة العودة إلى الذات، علنا نكون أعمق رحمة في ستر بعضنا بعضا عند الخطأ، وأجمل نفسا من تشهي العقوبة لكرام الناس منا، وأكثر تسامحا لمن التبس عليه رأي وهو في مسارب معرفة!
ربما لو التقى السعوديون بأنفسهم.. لقل فيهم سعار التقاضي على كل رذيلة، ولشاع في قلوبهم وعقولهم ويقين نفوسهم ـــ ''خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ'' الأعراف: 199 - وحكم السلوك فيهم ''والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين''. وليس هذا عن الكرام بعزيز ولا شحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي