رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مجلس الشورى ومشكلة استقلال المراجع الداخلي

قبل نحو أسبوع تشرفت باتصال من عضو مجلس الشورى أسامة القباني رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة حول موضوع استقلال إدارة المراجعة الداخلية في الهيئات الحكومية. وفي مقال سابق تحدثت عن المراجعة الداخلية ودورها، ودور الاستقلال في دعم مهام المراجع الداخلي، وقلت: إن المراجعة الداخلية ''نشاط'' قبل أن تكون ''وظيفية'' داخل منظمة، لهذا قام المعهد الدولي للمراجعين الداخليين بتعديل التعريف ليحذف كلمة وظيفة function من التعريف ويضع بدلا منها كلمة نشاط Activity، ويحذف عبارة ''في المنظمة'' ليبقى المجال مفتوحا لتنفيذ أنشطة المراجعة الداخلية من خارج المنظمة إذا لم تستطع المنظمة أن تضمن الاستقلال من داخلها أو لم تجد الكفاءات المهنية اللازمة. فالاستقلال أهم ركن، بل عمود بناء مهنة المراجعة الداخلية لو سقط انهارت تماما، لذلك قلت، وأكرر اليوم قولي: إذا لم تستطع أي منظمة أن تضمن استقلال المراجع الداخلي وحريته في الوصول بتوصياته إلى أعلى سلطة في المنظمة فإنه لا معنى لتسمية القائمين على هذا العمل بالمراجعين الداخليين، ويمكن إضافتهم إلى برنامج الرقابة الداخلية وفقا لأي اسم تقتضيه الحاجة. وأعلى سلطة ليس بالضرورة شخص، بل مجلس أو هيئة ضمن هيكل الحوكمة التي تتخذ القرارات الاستراتيجية وتوجه وتقوم أهداف المنظمة.
من المؤلم أن يناقش مجلس الشورى قضية مهمة كهذه القضية المحورية في إصلاح المنظمات الحكومية وتطوير أعمالها، وأن تتم مناقشة هذا الموضوع ''إدارة المراجعة الداخلية'' في ضوء اللوائح التي صدرت بشأن تنظيمها التي أكدت استقلالها وارتباطها إداريا بأعلى سلطة ''وهي ليست بالضرورة أعلى شخص''، وفي ضوء كل المعايير والإصدارات المهنية من المنظمات العالمية التي تنظم أعمال المراجع الداخلي مهنيا، التي أكدت جميعها الاستقلال بلا مواربة، فمن المؤلم فعلا أن تكون هذه هي الخلفية التي تمت فيها مناقشة هذا الموضوع ثم يوصي المجلس بمخالفة كل ذلك، ويضع استقلال المراجع الداخلي في المملكة على أسس غير واضحة. من الصعب عليّ تصديق أن مجلس الشورى رفض الاستماع إلى كل تلك المنظومة العالمية من المعايير والممارسات المهنية في استقلال المراجع الداخلي، وأن مجلس الشورى أطلق العنان بهذا لكل الممارسات الخاطئة تماما في أعمال المراجعين الداخليين في المملكة. فإذا كان الاستقلال محل نظر فإن وجود المهنة من أصلها أصبح محل نظر أيضا، وأي معيار أو ممارسة مهنية لم تعد بعد هذا ضرورية، ولا أعرف بعد أن رفض المجلس استقلال المراجع الداخلي وفق معياره المعتبر كيف أبقى عليه في المنظمات. ولا أعرف لماذا هناك جمعيات مهنية ومؤسسات أكاديمية وهيئات عالمية طالما مجلس الشورى يستطيع دون اعتبار لآرائها جميعا أن يقرر أمرا مخالفا لكل ما أجمعت عليه.
لنفلسف الأمر قليلا. كيف نقر بضرورة وجود المراجعة الداخلية، وكيف نطور معرفتنا بها إذا أقررنا بوجودها؟ إن الأساس الذي يقوم عليه علم المراجعة الداخلية ''وأي علم آخر'' هو فلسفة الوجود وفلسفة المعرفة، ومناهج البحث Ontology, Epistemology, and methodology . فلسفة الوجود هي التي تقدم للباحثين والعلماء الإجابات عن وجود الشيء في العالم الخارجي ''خارج عقل الإنسان الباحث أو الدارس''، وفلسفة المعرفة هي التي تضمن لنا الطريق السليم لمعرفة ذلك الشيء الموجود خارج عقولنا، وأن معرفتنا له صحيحة ومتفق عليها بين الجميع، مناهج البحث هي الطريق المقبولة والمعترف بها لوصول المعلومات الصحيحة عن العالم الخارجي إلى العقل. وهكذا فإنه كي نقبل ''علميا'' وجود الأشياء أو آثارها فلا مفر لنا من أن نتبع الطريقة المقبولة والمعترف بها لوصول المعلومات إلى العقل، وهذا تضمنه لنا فلسفة المعرفة، ثم نحكم على وجود الشيء من عدمه بعد وصول المعلومات الموثوقة عنه، وهذا تضمنه لنا فلسفة الوجود. لذا فإن حصل خطأ في مسار المعلومات من العالم الخارجي حتى الحكم عليها في العقل فإن أحكامنا حتما ستكون خاطئة، والتواصل فيما بيننا والحديث عن الأشياء من حولنا سيكون في خطر كبير، وبالتالي قراراتنا التي تسير حياتنا، وتنظم علاقاتنا. إذا تنكبنا الطريقة العلمية في الحكم على الأشياء من حولنا فلن نستطيع معرفة الفرق بين الأساطير والأوهام والحقائق.
من خلال الدراسات والأبحاث من شرق الأرض إلى غربها، تبين أن المراجعة الداخلية تحتاج إلى الاستقلال حتى تكون موجودة فعلا، وأنه بلا استقلال ستكون العواقب ضخمة ويصبح وجود المراجعة الداخلية محل شك، فالعقل لا يتصور مراجعة بلا استقلال، لذلك قلت إذا لم يتوافر الاستقلال للمراجع فسموه بما شئتم، مراقب أو محلل أو متابع فلا فرق، ذلك أن تسمية المراجعة الداخلية لن تستقيم لعقل الباحثين والدارسين، وسنبقى كمختصين وباحثين نطالب بإنشاء المراجعة الداخلية في المؤسسات الحكومية، لأننا لا نراها قد أنشئت بعد. لذلك يستطيع مجلس الشورى أن يوصي بتعديل الأنظمة كيف يشاء بحكم ما منح من صلاحيات، لكنه لن يستطيع أن يغير في فلسفة المعرفة، ولا فلسفة الوجود، ولن يجبرنا على القول: إن هناك مراجعة داخلية لمجرد صدور توصية أو عدم صدورها، طالما هي غير موجودة أو متصورة في عقولنا، وإذا أراد المجلس أن يغير ما في تصوراتنا فعليه أن يعود إلى الطريق الصحيح، إلى مناهج البحث ويمر عبر بوابة فلسفة المعرفة، قبل أن يصل إلى حدائق الوجود في عقولنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي