رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ملك التوازنات الصعبة

في ذكرى البيعة تأتي المفردة غريبة كل الغرابة، في طبيعتها وفي شخصها، ذاك لأن الملك عبد الله اتخذ له في قلوب السعوديين منزلا كريما، وأنزله الله فيها وهو خير المنزلين. ومن يسكن قلبك لا يغيب عنك، ولا تحتاج إلى من يذكرك به.
هذا رجل اعتاد بصدق سقي الآمال الذابلة في نفوس الناس، واعتاد بصدق أكثر أن يكون قريبا من آلامهم.. من الرجاء المستقر في قلوبهم وإن ضمر، ومن الحزن وإن تردد حضوره، هذا هو سبب اليقين فيه بما لم يعهد شعب لملكه في هذا الزمان، وفي هذا الظرف الراجف المتقلب المتغير.
من زمن داني القرب، كان ابتعاث التعليم للخارج ترفا لا يمني أحد من المواطنين نفسه به، كان حصرا على طبقة الأصفار الستة والأرقام الصعبة في أرصدة البنوك! ولم يكن أحد يثير هذه الفكرة بوصفها مطلبا ولا حتى رغبة مؤجلة إلى حين ميسرة.. فقد كانت فعلا تمثل ترفا لا مبرر له. إلا هذا العبد الصالح، فقد ضرب بعصاه البحر لقومه، ورصف بين يدي أبنائه المواطنين المليارات ليتعلموا في أرقى الجامعات في العالم، ودون تمييز ولا تفاضل ودون تقتير على النفقة ولا حساب! لقد قرر أن يستثمر في أبناء شعبه وأن يبني مستقبلهم، بتكوين عقول ناضجة بالوعي، وبالبيئة الصحيحة للإنتاج، والجودة والتطور. إن كل مبتعث تبلغ فاتورة تكلفته لقرابة مليوني ريال. وكل هذا الإنفاق ليس مشروطا بشيء ولا مقيدا بقيد، ولا محروما منه أحد من شعبه بكل طوائفه، بكل حدوده ومن كل زواياه.
هذه هي روحه، وهذا هو قلبه، وهذه هي عطاياه.. فهل لمثل هذا ذكرى.. أم هو الحضور الدائم والتجلي الذي لا ينقطع عن القلب، واللسان، بصدق الدعاء وجميل الذكر.
ومن زمن يلامس حاضرنا، تبصر بجليد يتكون فاصلا العقول مباعدا ما بين القلوب، بدأت التربة المستقرة تمور بأهلها في المحيط الإقليمي، تحرك الاستفزاز الطائفي المتبادل، تمددت أصابع لتسقي جذور الكراهية التاريخية، وتنبش قبور الماضين وصراعاتهم، وتبعث أحقادهم وحروبهم، والوقوف عند القاتل والمقتول منهم! الأمة التي خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت باتت تمشي في شوارعنا، بعد أن أخرجناهم من قبورهم، وباتت تتلكم فوق منابرنا، وباتت تشاركنا مشاعرنا في الحب والكره، وبتنا نحن بلا حاضر لأن التاريخ والماضي بكل تناقضاته وبكل أحقاده، وبكل قصص الفتنة والصراع فيه، تحول إلى حاضرنا ولا حاضر لنا غيره. ولا مستقبل واجف يبصر الفتنة الكبرى التي لا تموت عند عرب لا تلتقي إلا عند كل فتنة تباعدهم، وتشتتهم ولا تلتقي عند نهر عذب يسقي الجميع وينبت على ضفافه المغفرة والحب والنماء والخير.
هذا المستقبل كان الملك عبد الله، تارة أخرى جعل شعبه ينيب إلى الحوار الوطني، كانت رسالته الأولى أن يتعلم الناس التنوع والحب والتعايش، أن يتعلم العرب كيف يختلفوا دون أن يكون بينهم السيف. وكيف تتقابل الرؤية دون أن يكون بينهم الشتيمة والتخوين والإقصاء وامتهان الكرامة. كان الملك عبد الله يريد للناس من أمته أن يحبوا أنفسهم حين يكونون مختلفين كما يحبون أنفسهم حين يكونون متوحدين على فكرة وعلى قراءة يقينية للتاريخ وسيرة أهله.
ربما مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني قد أبطأ به السير وربما قد تراجع حضوره، وربما كان في حاجة إلى حماسة الرجاء فيه، وأن يرتفع إلى مستوى الأمل منه. في زمن أبرز صفاته سرعة التغير نحو الأسوأ.. لقد نجح بشكل محدود، أو ربما نجح أقل من تأثير الصراعات الإقليمية. فظهر نجاحه متواضعا وأقل مما هو عليه.
وهنا يظهر الملك عبد الله - بذات الطبيعة الطاهرة في إرادة الخير للناس جميعا، تحرك نحو بناء السدود لكيلا تغرق القرى وهم نائمون، وغافلون عن التصدع في سد مأرب.. تبنى الحوار بين المذاهب الإسلامية، وبهذا تكتمل روح المحبة للإنسان وحبه لمشروع الحوار بين الأديان. وبهذا يكون هذا الملك الصالح قد قطع الشوط الأكبر نحو السلام المفهوم الطاهر والعميق للتوحيد ولملة إبراهيم ولرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين.
من الدولة التي مثلت مهبط الوحي ومدارج الرسالات السماوية التي اصطفاها الله قبلة للعالمين، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، هذه الخيرية كأنها صفة الجذور، كأنها طيب الأصول، كأنها طهارة الأعراق، كأنها زكاة الأنساب وطهرها، كأنها عذوبة الينابيع ورقتها، كأنها طهارة قلوب الطاهرين الذين يبايعونه تحت الشجرة على الحب والسمع والطاعة.
وهكذا تنطوي مراحل التاريخ، تحت عباءتك أيها الملك الصالح وهذه قلوبنا تنطوي بحبك. ذاك الحب الخالد السرمد. يا خير ملوك العرب وأنبلها وأشرفها وأطهرها قلبا وروحا وفكرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي