إيران وسياسة «الفوضى الخلاقة»
تُعرّف الدولة الفاشلة بأنها ذات حكومة مركزية ضعيفة أو غير فاعلة حتى أنها لا تملك إلا القليل من السيطرة على جزء كبير من أراضيها، ومن أعراض الدولة الفاشلة أنها تفقد السلطة القائمة قدرتها على السيطرة الفعلية على أراضيها أو أن تفقد احتكارها حق استخدام العنف المشروع في الأراضي التي تحكمها، وفقدانها شرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها، وعجزها عن توفير الحد المعقول من الخدمات العامة البلدية والصحية والتعليمية والإسكانية، وعجزها عن التفاعل مع الدول الأخرى كعضو فاعل في الأسرة الدولية، ومنها عدم قدرتها على رعاية مصالح جميع البلاد، حيث ترعى فئة دون أخرى لاعتبارات عديدة.
ومرور أي دولة بمرحلة الدولة الفاشلة يشكل فترة أكثر من مناسبة للقوى الخارجية أو الداخلية لتقسيمها إلى دويلات على أساس ديني أو عرقي أو طائفي أو مناطقي، فضلاً عن كونها مرحلة تدمير للإنسان والمكان معاً والتراجع التنموي الكبير حيث تدمر البنى التحتية وتتهالك وتنتشر الأمراض ويعم الجهل ويسود الفقر بدرجات متفاوتة تتناسب طرديا وحدة الفشل، وأعتقد لما لهذه المرحلة من آثار كارثية في الحاضر والمستقبل على أي دولة تمر بها أفتى بعض علماء الدين بضرورة احترام السلطة وعدم زعزعتها مهما كانت الظروف والمعطيات.
نحن نسمع أن الولايات المتحدة والغرب عموما لديه مشروع لإعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اقتصاديا، وهو أمر يتطلب إعادة هيكلتها سياسياً أيضاً، وجميعنا نسمع عن مشروع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA ونسمع عن استراتيجية ''الفوضى الخلاقة'' التي تعرف بأنها ''حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث''، ويعد ''مايكل ليدين'' العضو البارز في معهد '' أمريكا إنتربرايز'' أول من صاغ مفهوم ''الفوضى الخلاقة'' في معناه السياسي الحالي، وهو ما عبر عنه في مشروع ''التغيير الكامل في الشرق الأوسط'' الذي أعد عام 2003 الذي ارتكز على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء، وأعلنت عنها وزيرة خارجية أمريكا كوندوليزا رايس في حديث لها أدلت به إلى صحيفة ''الواشنطن بوست'' الأمريكية في نيسان (أبريل) 2005 بعد الغزو الأمريكي للعراق.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة بعد أن خرجت من الحرب الباردة قبل أكثر من عقد من الزمان منتصرة وبكامل قوتها تبنتها كاستراتيجية ضرورية لبناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة وشرعت بتجريبها في أقطار العرب والمسلمين وتبدو اليوم أكثر إصرارا على الاستمرار في تنفيذها بدافع أن تلك الفوضى بدأت تؤتي ثمارها الخلاقة، حيث غيرت قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في دول عربية رئيسية مثل مصر وليبيا وتونس واليمن والعراق وسورية والسودان وفلسطين ولبنان.
والسؤال أين إيران من كل هذا؟ وهل ساهمت بشكل كبير في تحقيق الشق الأول من الاستراتيجية وهو ''الفوضى''؟ وهل تعمل استراتيجيا على تحقيق مكاسب كبيرة من تحقيق الشق الثاني ''الخلاقة'' أي الوضع الجديد الذي سينشأ عن الفوضى التي تستهدف أمن الأوطان والسكان وقلب الأنظمة، وإعادة صياغتها بشكل يجعلها مسلوبة الإرادة والسيادة.
الجواب واضح فيما تفعله إيران اليوم في العراق وسورية ولبنان واليمن، حيث استطاعت إنشاء مليشيات دينية تابعة لها باستثمار الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون التي تشعر بها الأقلية الشيعية في تلك الدول ذات الأغلبية السنية، والأمر ذاته تسعى لخلقه في دول الخليج، وقد نجحت إلى حد ما في تحقيق مثل تلك المليشيات في الأطر الفكرية والاجتماعية على أقل تقدير، كما قامت بالعمل على دعم ونشر أي مذهب قريب للمذهب الشيعي الاثني عشري في الدول العربية كافة كالسودان وتونس ومصر، وها نحن نسمع عن الصيحات السُّنية تتزايد هنا وهناك محذرة من الخطر الإيراني بدعوى نشر المذهب الشيعي وحماية وتدعيم معتنقيه.
ولا شك أن الناظر لما تقوم به إيران اليوم في العالم العربي يتضح له أن الغاية ليست نشر المذهب الشيعي وحماية معتنقيه بقدر ما أن غاية إيران تحويل الدول العربية إلى دول فاشلة يمكن تفتيتها لدويلات صغيرة يصبح الكثير منها ذا أغلبية عربية شيعية تابعة لإيران سياسيا وثقافيا واقتصاديا، وذلك في إطار المشروع الأمريكي لإعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط بتطبيق استراتيجية الفوضى الخلاقة، نعم فإيران لا تعبأ بالشيعة العرب بداخلها وكذلك الشيعة الأذريين ولا تهتم لشأنهم، كما أنها تعامل المواطنين الإيرانيين السُّنة معاملة مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
إيران صنعت ''حزب الله'' ومكنته من التمرد على الدولة والعمل كميليشيا مستقلة القرار ولا تخضع للدولة والأدلة متعددة، إيران دعمت حزب الدعوة العراقي وكونت له ميليشيا مسلحة ومكنته من الحكم ولم تدخر جهدا لدعم ميليشيا الصدر، إيران تدعم تكوين ميليشيا علوية في سورية بتدخل سافر لإضعاف سورية وتقسيمها على أساس طائفي، إيران دعمت الحوثيين بالمال والسلاح ومكنتهم من السيطرة على محافظة صعدة، كما أنها تدعم وفاق البحرين لتكون بالقوة ذاتها وتلعب الدور ذاته، وأخيراً إيران تحتضن القاعدة وتدعمها بالسلاح لتقف في وجه الميليشيات الشيعية في كل هذه الدول لتستعر الحرب الطائفية في البلدان العربية ويكسر الفخار بعضه بعضاً وهي تنتظر لتحصد النتيجة السارة لها وهي التقسيم الطائفي والفوز بحصة الأسد في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد.
الحد من الخطر الإيراني في إطار مخاطر ''الفوضى الخلاقة'' يتطلب من الدول العربية كافة درجة عالية من التسامح والسلم الاجتماعي وتعزيز اللحمة الوطنية على أساس المواطنة وسد الثغرات بين القيادات والشعوب مهما كانت صغيرة والانتقال من موقع الدفاع المتأخر إلى مرحلة الهجوم الاستراتيجي الاستباقي الذكي المبكر.