إنما النفط فتنة

وهل في ذلك شك؟ الثروة النفطية مال، والله سبحانه يقول في كتابه ''إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ''، من الآية 15، سورة التغابن.
كانت وما زالت فتنة النفط خصوصا، والموارد الطبيعية عموما، موضع اهتمام ودراسة كثيرين ومنهم الاقتصاديون. وأعني بالاقتصاديين المتخصصين في الاقتصاد، وليس كل كاتب في الشأن الاقتصادي. والتسمية الإنجليزية المنتشرة في الأدبيات الاقتصادية الأكاديمية وشبه الأكاديمية والتي تعطي معنى مقاربا للفتنة oil curse.
ما طبيعة هذه الفتنة؟
ربما توضح القصة التالية هذه الطبيعة.
يحكى أن جزيرة صغيرة ونائية في وسط المحيط الهادئ تدعى ناورو، كانت غنية بمادة الفوسفات في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، واستخدمت إيراداتها في شراء الود السياسي للناس، حتى أن بعضهم اشترى سيارات فاخرة وسريعة. ولعدم وجود طرق يسابق فيها، ذهب بتلك السيارات إلى المطار، واستغلت مدارجه لتجريب سرعة السيارات وقت خلو المدارج من حركة الطائرات. وتحت الضغوط، زادت الحكومة رواتب موظفيها زيادات لا علاقة لها بإنتاجيتهم، ووظفت الحكومة غالبية مواطنيها، ورحلتهم للعلاج في الخارج. استشرى في الجزيرة الفساد.انتهى الفوسفات فعادت الجزيرة إلى الفقر.
يتكرر ما يشبه الحكاية السابقة في العديد من البلدان النفطية.
ماذا بشأن دول نفطية متطورة اقتصاديا، النرويج مثلا؟
عندما ارتفعت أسعار النفط ارتفاعا عظيما في سبعينيات القرن الميلادي الماضي، مثلا من دولارين في عام 1972 إلى نحو 10 دولارات أواخر 1973، أصبح إنتاج النفط في بحر الشمال اقتصاديا.
ماذا فعل النرويجيون؟
رسموا في عام 1974 خطة في كيفية التعامل مع الوضع، وهذا الدخل المرتفع الفجائي. رغبوا ألا يكرروا غلطة الهولنديين قبل قرن من الزمن تقريبا، حينما أصابتهم فتنة الغاز، وتدهورت تبعا له إنتاجية وتنافسية اقتصاد هولندا. حتى أصبحت هذه الفتنة تعرف أيضا باسم المرض الهولندي.
رأى أهل النرويج تجزئة منطقة الامتيازات النفطية إلى 278 رقعة، وعدم منح امتيازات التنقيب لأكثر من 5 رقع في السنة الواحدة. والأهداف تنظيم تدفقات النفط، ومنع صنع فائض طلب على اليد العاملة ومدخلات الإنتاج، لأنها مفتاح التضخم، ومجال تضييع الفرص على باقي القطاعات.
ومن جهة أخرى، قام النرويجيون بعمل حماية للإيرادات العامة من إيرادات النفط وتقلباتها. بحيث تقلل تقلبات الإيرادات العامة عند تقلب إيرادات النفط، وتقلل التقلبات في معدلات التضخم نتيجة التقلبات في الإنفاق العام. ويتأتى ذلك بوضع حدود للارتباط بين الإثنين الإيرادات النفطية والإنفاق العام. ومن طرق تحقيق ذلك أن تحول بعض إيرادات النفط إلى صندوق سياديِ، على أن ينفق جزء كبير منها خارج الدولة للتقليل من موجات التضخم. ومن طرق تحقيق ذلك تحويل بعضها للإنفاق على بنود لا تخضع للمالية العامة، مقابل تنازل نقابات العمال عن المطالبة بزيادات في الأجور. كما تبنى النرويجيون سياسات ترمي إلى حماية أو تقليل تضرر القطاعات الإنتاجية من آثار زيادة الدخل النفطي، وتأثيراته السلبية في تلك القطاعات. ومن هذه السياسات ما يخص العمل كأجور اليد العاملة وانتقالها. ومعروف أن زيادة الدخل النفطي تضر القطاعات الإنتاجية، وبالمقابل تزيد ربحية القطاعات غير الإنتاجية كالمضاربات العقارية.
في بلادنا، عندما تكلم متكلمون طالبين الرشد في الإنفاق، وبعد النظر بالتحسب للمستقبل، قابل الكثيرون ذلك بالانتقادات والاتهامات. قيل إن النظرة السوداء سيطرت على عقول الناصحين، ورموا بأنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
إنها فتنة النفط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي