مشاهدات في محطة قطار جنوبية عام 2044
كل شيء عجيب في هذا الزمان، اليوم ونحن نعيش في عام 2044 أجد أن لدي محاضرة في لندن، وبعدها بساعة سأحضر دورة في اليابان، ثم سأزور معالم ومكتبات إيطالية قبل أن تبدأ المحاضرة التالية في ولاية أورلاندو الأمريكية، وغدا سأدخل المسرح أو السينما في دولة على أطراف خريطة العالم، ومع ذلك فلن أخرج اليوم ولا غدا من منزلي؛ لأن عندي ضيوفا في المساء. في عالم عام 2044، أكون قد بلغت من الكبر سنا تمنعني حتى من السفر لمسافة 100 كيلو متر، لكنني مع ذلك سأذهب في نزهة إلى كل أسواق العالم، وقبل أن يأتي ضيوفي على العشاء، سأشتري لي كتبا من المعرض الدولي للكتاب في بكين، وسأزور أسواقا كورية، فلديهم منتجات إلكترونية طبية جديدة. في هذا الزمان الغريب، لا أذهب للجامعة، بل أقدم محاضراتي لجامعات العالم وأنا في مكتبي في المنزل، ورغم ذلك أعرف الطلاب جيدا وقد ألتقيهم مصادفة في إحدى الأسواق العالمية بعد المحاضرة مباشرة. في هذا الزمان كل شيء يبدو ممكنا طالما أنت تستطيع أن تضع تلك النظارات العجيبة على عينيك، وتلك القفازات اللاصقة على أصابعك، ولديك اتصالات جيدة مع عالم الإنترنت المثالي. في هذا العالم يمكنك إنجاز معاملاتك وزيارة أي طبيب في أي مكان ولن تجد أمامك قوائم انتظار، ويمكنك حجز العمليات التي تنفذها مستشفيات محلية باتصالات وإشراف مباشر من الأطباء في أقطار الدنيا، كل شيء سيأتيك مباشرة عبر شركات مختصة للتوصيل، فقط عليك مهمة اختيار شريكك المناسب في عالم النت الذي لديه عربة تسوقك الدائمة، قد يدفع عنك وتعوضه عند وصول مشترياتك إلى المنزل، أو قد تقوم بعمليات الشراء ببطاقاتك الائتمانية، في هذا العالم العجيب لن يكون للأسواق واقع ملموس، ولن تكون هناك حاجة لدفع الملايين لديكورات وسلالم كهربائية في مبان حقيقية لن يزورها أحد، فقط أنت في حاجة إلى مصممين بارعين مختصين في عالم الإنترنت، وسيكون لكل مبنى عالمه الخاص وترفيهه المترف جدا، ومع ذلك يتغير كل يوم تقريبا. رغم كل هذه الروائع التي أحدثك عنها إلا أنه يجب علي الخروج من منزلي رغما عني، فقد سمعت أنه تم الانتهاء من أول محطة لقطار الجنوب، وأريد أن أعرف بعد 30 عاما من دراسة المشروع إلى أي درجة بقي الناس في انتظاره.
وكي تكون الصورة واضحة عن أسباب حرصي على زيارة المحطة، سأعود بكم إلى عام 2013 عندما صرح الرئيس العام للمؤسسة العامة للخطوط الحديدية السعودية، المهندس عبد العزيز بن محمد الحقيل، في 25 آذار (مارس) 2013 المنشور في موقع ''العربية نت''، أشار فيه إلى الانتهاء من مشروع ''الخطة'' الاستراتيجية لـ ''الخطوط الحديدية'' في المملكة، التي تمتد إلى 30 سنة قادمة، مبينا أنها ستكون مسؤولة عن عشرة آلاف كيلو متر من سكك الحديد تربط مناطق المملكة بقطارات متطورة. لكن ليس هذا سبب حرصي، بل فقط لأن كلمة ''بعض'' وردت في التصريح عندما قال الرئيس العام إن المؤسسة العامة للخطوط الحديدية تتجه إلى ''الإفادة من مزايا النقل بالقطارات لربط ''بعض'' مناطق المملكة بشبكة خطوط حديدية متطورة في عدد من المحاور'' - ''انتهى كلامه''، فدخول كلمة ''بعض'' إلى المناطق يجعل الأمر غير واضح لنا، ذلك أن لدينا 13 منطقة منها أربع مناطق في الجنوب، فقوله بعض المناطق يدل على أن الخطوط خلال 30 سنة القادمة لن تصل أبدا إلى بعض المناطق، ولم يحدد في التصريح أي تلك المناطق لن يصلها القطار، كنت أتمنى لو سمعت كلمة ''بعض'' المدن، فاستثناء مدن من القطار أهون بكثير من استثناء مناطق بأسرها، ثم عادت توصية مجلس الشورى في 28 نيسان (أبريل) 2013 وزادت من القلق، فالواضح أنها لم تطلب إضافة مناطق إلى الخطة، بل مجرد مدن، وهذا يدل على أنها لم تناقش موضوع المناطق، بل فقط رغبة من المؤسسة في إضافة مدن في المناطق التي في الخطة.
ومهما قيل عن أهمية التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، فإن 30 سنة طويلة جدا، ففي عالم الاقتصاد لا يمكن التنبؤ بأكثر من سنة، بل أصبحت اليوم أقل، وفي السياسة يعتبر الأسبوع مدة طويلة للتنبؤ أو حتى للتعامل السياسي معها، وفي عالم يعج بالأحداث السياسية المتطرفة والكوارث الاقتصادية الهائلة، فإن الحديث عن خطة لمدة 30 عاما أمر مخيب لكثير من آمالنا نحن الذين لم يصلهم القطار بعد، لكن وصل أمله بالخطة التي أعلنتها المؤسسة، ناهيك عن الذين لم يصلهم حتى أمله، وإذا كانت آمال الجنوب تلاشت تماما في خط الشمال الجنوب، خاصة بعد أن تم تعديله إلى ''سار''، وأن تبريرات ذلك تعود فقط إلى أن الاسم لم يعد يطابق واقعه، فإن مخاطر تعديل الخطة الاستراتيجية بعد 20 سنة؛ لأنها لم تطابق الواقع تجعلنا نقلل من أملنا في مشاهدة القطار في محطة جنوبية.
لكن لماذا الجنوب في حاجة إلى قطار؟ هل لديه ما يستحق نقله بقطار؟ لقد تحدثت عن هذا بشكل مفصل في مقال سابق، في الجنوب أربع مناطق، والجنوب أكثر مناطق المملكة كثافة في السكان، فهناك 167 شخصا في كل كيلو متر مربع؛ ومنطقة جازان الأعلى في ذلك بين مدن المملكة. ومساحة المناطق الجنوبية تعادل 12 في المائة من مساحة المملكة، وفي الجنوب 227 محافظة بفئاتها المختلفة، في الجنوب جامعات ومدن طبية. هذا لو اخذنا الجنوب بمعناه الجغرافي، لكن إذا نظرنا إليه كجنوب الوسط فإن هذه الأرقام سترتفع إلى الضعف، ومع ذلك فإن مجلس الشورى والمؤسسة العامة للخطوط الحديدية يضعان آمالنا في خطة عمرها 30 سنة وذلك لبعض المناطق.
في الخطة المستقبلية للمؤسسة العامة للسكك الحديدية المعروضة في موقعها على شبكة الإنترنت نجد مشروعات المستقبل تشير إلى خط الطائف - خميس مشيط - أبها، لكن يبدو أن دراسات الجدوى لهذه المشروعات قديمة ذلك أنها تنبأت بعدد المسافرين المتوقع في عام 2012 على هذا الخط وأنه سيبلغ ما بين ٧٢٦ ألفا إلى أكثر من مليون راكب، كما تنبأ الموقع أن ينقل هذا المسار في عام 2012 ما يقدر بأكثر من 700 ألف طن من السلع. وها نحن الآن في عام 2013 ولا معنى لكل هذه المعلومات إلا إذا كانت مجرد أرقام للمقارنة بالمستقبل فقط، وفي الخطة تصل خطوط السكك الحديدية إلى جازان ثم تقف، لن تذهب إلى نجران ولن تربط بيشة بأي مكان، ولن تمر بوادي الدواسر، رغم كل ما لدى هذه المدن من ثروات زراعية تتطلب النقل السريع والرخيص إلى الأسواق .. لكن ما أهمية مثل هذه الأسئلة إذا كنا لن نرى محطة قبل عام 2044، بل لم نر حتى الآن محطة من كل المشروعات القائمة.