إذا لم تتطور فأنت ميت
لا وقوف في كل سير، ولا وقوف في حركة الحياة، وحركة الزمان وصناعة التاريخ. في كتاب الله الكريم ''لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر'' هي هذا الحصر وحده أن ''تتأخر'' أو أن ''تتقدم'' لا يوجد بينهما وقف، أو توقف.. الواقف هو متأخر حتما.. لكون التقدم يفتقر إلى الفعل والتأخر لا يحتاج إليه.. يكفي أن تقف مكانك لتجد نفسك في الخلف، وقد سبقك الآخرون، سبقك زمانك، وسبقك أهله.. وأنك بمقدار طول هذا الوقوف يتم عليك صفة - التأخر - والتخلف، والتراجع، والبعد.
أو بحسب تعبير الفلسفة اليابانية المعاصرة - الشعوب التي تسكن خارج الزمن ــــ أي الميتة، لكون الحي يتفاعل مع زمانه في صناعة حاضره، ورسم ملامح مستقبله، وجعل الحياة أفضل يوما بعد يوم، ومعرفة ممتدة بأثر أخرى. أما الخارج عن الزمن فهو الذي يعبره زمانه، وهو كما هو.. لا يؤثر فيه، ولا يتأثر منه ولا يغير واقعه بما هو أفضل منه. وهذه صفات الكائن الميت.
لا فرق بين ـــ أمة ــــ من الناس، وبين فرد واحد منها، في التقدم والتأخر بمصطلح القرآن الكريم، أو الحياة والموت بتعبير فلسفة اليابان، التي تجعل الرقي والتطور والحركة الذاتية للفرد أو المجتمع هي المؤشر الوحيد لحياته. هي النبض بالنسبة للقلب، إن توقف اعتبر الإنسان ميتا.. ينتظر الدفن!
البعض غضب واعتبر تصنيف بعض علماء التاريخ المعاصرين من اليابان للعرب بالشعوب التي تأخر دفنها بأنها عنصرية بغيضة تجاه العرب، وكراهية مدفوعة القيمة من الصهيونية العالمية، في كتاب ـــ قراءة الإنسان المعاصر الجغرافيا والتاريخ ــــ، في الواقع هو ينظر ــــ الإنتاج ــــ الجمعي، التطور النوعي للحياة، حركة المجتمع في تغيير أنماطه وأساليبه، ورقي أخلاقه، وسلوكه الاجتماعي. لكي ينطلق من هذا للدلالة على البصيرة، والعقل، والحياة.
وليس بسر، أننا إن تحركنا من ''الوقوف المزمن'' تحركنا للمكان الخطأ، أو للسلوك الأكثر سوءا، لقد كنا مجتمعا زراعيا في معظم الأقطار العربية، وبتنا لا نملك القمح الكافي لخبزنا اليومي، ولا آمنا غذائيا لأمة مهددة بالجوع، إن شحت موارد طعامها، نحن اليوم أمة تقتات على بطون أرضها أكثر من ظاهرها، وأكثر من عملها، وصناعتها، وإنتاجها. وكنا أمة نحصد من بطون البحار أجمل هباته، ونستخرج منه أطهر لحومه، وبتنا نستورد هذا كله، ولا نحسن زرعا ولا صيدا ولا حصاد سنبلة ولا زراعة حبة أرز أو شعير.. حتى علف دوابنا شحيح إلا باستيراد عسير باهظ التكلفة، وكأنه قمح وحنطة صرفا.
وفي كتاب الله ''يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون'' (الأنفال 24)، بالرغم من أن المخاطب حي، يتلقى الخطاب سمعا، وبصرا وحياة مادية لا ريب فيها، ولا أمتا.. إلا أن طلب الاستجابة لتلقي حياة حقيقية تقوم على التسامي بالذات، فيما يعتقده قلبه، وفيما يخالج شعوره، وفي نوازعه، وعمل الصالح الضارب في الأرض عمارة وخيرا وحبا وتسامحا وقياما لله قسطا وعطاء وحبا. الاستجابة لصناعة ''خير أمة'' تكون بين الناس في زمانها وفي مكانها. وأن هذه الخيرية وحدها هي التي تتحول إلى لسان صدق في العالمين بالدعوة إلى الله.. من خلال طهارة الباطن، وصلاح الظاهر.
هذا ما تباعدنا كثيرا عنه، هذا البعد الذي جعلنا نستوحش العودة إليه، وقد غم علينا طريقه، وتوارت في قلوبنا مسالكه، نستجلب منابعه إلا أن البئر معطلة.. بعيدة الغور..! تباعدت القلوب بعد قسوتها على أمها الرحيم بعظيم العقوق، وبعد تباعدها عن الكافل المتكفل بالتربية والتنشئة والنفقة ــــ هذا الأب ــــ الذي كونا في مدننا ''دور عقوق'' ترعاه، تنز على ضعفه، وبعض عوزه، وبعض ستره، وبعض كرامته.
هذا التأخر في ذواتنا.. والوقوف من زمن في حس إنسانيتنا، في رحمتنا، في عطفنا وحبنا.. وكرمنا الذي يتلون بالأنوية التي تتلبس البذخ المجنون على إشهار عرس، وبراءة مشينة موجعة في دار ''عقوق'' التي تسمى رعاية المسنين، لمن حملت وهنا على وهن، من أمشاجها، من صلابة عظامها، من قوة عينيها، وسهر لياليها، الطاهرة ببسم الله يديها، وتراتيلها قبل كل إغفاءة، وبعد كل يقظة! هذا هو الموت الذي يعنيه كتاب الله، والذي يعنيه اليابانيون في الفلسفة المعاصرة.
ولذا لا عجب أن يجعلنا الله ننسى أنفسنا، فنحفر الشارع الذي بالأمس رصفناه، ونفتح بطن المريض الذي انتهينا من خياطته، ونزيل المدن لتتسع الشوارع وهي لم تكتمل بعد في بنيانها، وأن تغرقنا سيول من ظلمة قلوبنا، وسيول من قسوتنا.. وسيول من أنانيتنا.. حتى نموت غرقا في ماء نجس! ''أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ''، ربما ما زلنا في الظلمات لم نخرج منها.. ونتلمس عن حياة لم نرتفع بعد إليها!