كي تكون مكاتب المراجعة الوطنية مهنة عالمية

في اعتقادي أن مكاتب المراجعة الوطنية التي تعمل في المملكة، تحتاج إلى دعم واسع وكبير من قبل الدولة. وغني عن القول أهمية مهنة مراجعة الحسابات وتأثيرها الواسع في الاقتصاد من جميع جوانبه؛ ونظرا لهذه الأهمية فإن ترك المهنيين في مواجهة صعوبات المهنة مع ضعف مستويات الأتعاب وارتفاع المسؤوليات والتحديات أمامهم وتعقد بيئة الأعمال بشكل غير مسبوق سيكون له أثر خطير في المهنة في قادم الأيام، وإذا تأثرت سلامة هذه المهنة فإن الاقتصاد كله معرَّض لمطبات اقتصادية لا يمكن التنبؤ بحجمها وتأثيرها، وإن تأثر اقتصاد المملكة ـــ لا قدر الله ـــ أو إحدى أكبر شركاته التي تتوسع يوما بعد يوم، فلن يسلم العالم من تأثير ذلك. ليس هذا الكلام من باب المبالغة في شيء؛ فلقد أثبتت هذه المهنة خطورتها (إن هي أهملت) على سلامة الأسواق المالية والاقتصاد العالمي، خاصة مع تطور الاقتصاد العالمي في القرن الحالي والانتقال اليومي للأموال والمعلومات من أسواق شرق الكرة الأرضية إلى غربها، والعودة مرة أخرى كلما دارت الأرض حول نفسها، فإذا انهارت شركة في شرق الأرض اهتزت الأسواق المالية وتأثرت أسعار الفائدة في دول العالم كلما فتحت الأسواق مع حركة الشمس في مسيرها إلى الغرب.
لذا؛ لم يعد تطور مهنة المحاسبة ومراجعة الحسابات في دول الشرق معزولا عن تطورها في دول الغرب، وهذا ما جعل النداء بتوافق دولي على معايير المحاسبة والمراجعة يجد له أصداء واسعة على جميع الاتجاهات في الكرة الأرضية. وأصبحت المئات من العقول المحاسبية تجتمع بشكل يومي للحد من الخلافات بين الدول والوصول إلى صيغ توافقية حول المعايير والإجراءات الواجب تطبيقها. ولم تكن المملكة في يوم ما معزولة عن عالمها، لا ولم تكن كذلك في مهنة بحجم المحاسبة والمراجعة، ومن هنا بدأت مشروعها بالتحول إلى مجموعة المعايير الدولية في المحاسبة والمراجعة وبدأت الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين هذا المسار الصعب والوعر جدا، بينما انطلقت مهنة المراجعة الداخلية في المملكة بتوافق على المعايير الدولية في تخصصها.
المشكلة الكبرى التي تواجهنا في المملكة، أن الاقتصاد يتوسع بشكل غير مسبوق، وبعد أن كانت الميزانية العامة للدولة تعاني عجزا مع مطلع القرن الواحد والعشرين، فإننا لم نكمل عقده الأول حتى تجاوزنا التريليون من الإيرادات مع فوائض بحجم ميزانية عام 2001، وارتفع حجم المصروفات إلى حدود قياسية، وحققت المؤسسات والشركات الخاصة أرباحا غير مسبوقة، ولم تكن إعلانات شركات الأسمنت بآخرها، وحققت مصلحة الزكاة (التي تستقطع فقط 2.50 في المائة) أكثر من 12 مليارا مع نهاية عام 2012، وهذا يشير بوضوح إلى تضخم حجم الاقتصاد السعودي خلال فترة وجيزة، وإذا أخذنا في الاعتبار كل التوجهات الداعمة للقطاع الخاص، فإن القادم سيكون أكثر توهجا، بإذن الله، وهذا يحتاج إلى مهنة قوية وصلبة في مراجعة الحسابات والمراجعة الداخلية؛ حتى نضمن سلامة الاقتصاد، وهذا لن يتحقق ما لم تلتفت الدولة إلى هذه المهنة وتدعمها بشكل مباشر.
هذا الدعم الذي نسعى إليه يأخذ أشكالا عدة، من أهمها دعم البعثات الخارجية والإيفاد الداخلي للحصول على التدريب والشهادات المهنية؛ فالدولة مشكورة اهتمت بالجانب العملي وأخذت على عاتقها إرسال الآلاف من أبنائنا إلى الخارج للدراسة الأكاديمية، لكن هذه المهنة في حاجة إلى مهنيين أكثر منها إلى أكاديميين، نحن في حاجة إلى زيادة أعداد المهنيين الممارسين المدربين والمؤهلين إلى مستوى قياسي، خاصة أولئك المهنيين الذين يعملون في مكاتب وطنية صغيرة؛ فالاستقطاب ضعيف هناك نظرا لعدم قدرة المكتب الصغير على تغطية نفقات التدريب والتأهيل المهني للموظفين (وهي متطلبات أساسية على المكتب للحفاظ على ترخيصه)، وهذا يجعل المكتب الوطني الصغير يدور في حلقة الموظف الأجنبي المؤهل والحفاظ على مستوى صغير من الأعمال يغطي تكاليف الحياة التي تزداد صعوبة بينما صاحب المكتب يواجه مسؤوليات متعاظمة، خاصة مع التحول للمعايير الدولية، وهو الأمر الذي يعني تكاليف تدريب ضخمة. هذه القضية تزداد تعقيدا مع تحول المملكة إلى المعايير الدولية، وهو الأمر الذي تحتاج إلى إعادة تدريب المؤهلين للتوافق معها.
من أشكال الدعم التي نطالب بها لمكاتب المراجعة الوطنية، دعم الرواتب خاصة مدير المراجعة. فمن المشهور في هذه المهنة قلة الأتعاب مقارنة بحجم المصروفات التي يتكبدها المكتب، سواء في عملية مراجعة الحسابات أو في مواجهة الارتفاع المتزايد في أسعار العقارات. المشكلة أن مكاتب المراجعة لا تعمل في محال تجارية، ولا يجوز لها أن تعمل بهذه الطريقة؛ لذا يجب على المراجع استئجار مكاتب في مبان مخصصة لذلك، وهذه ذات إيجارات مرتفعة جدا وتتزايد كل يوم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المراجع مجبر على دفع رواتب شهرية بينما تدفع له تكاليف المراجعة بعد تسليم تقاريرها، أي مع نهاية السنة (وفي هذا يمكن تشبيه المراجعين بالمزارعين في مواسم الحصاد) فهم يتعاملون مع الجميع بالدين والوعد يوم الحصاد، وإذا كان هذا ممكنا في بعض الجوانب فكيف له أن يكون مع رواتب العاملين، خاصة المهنيين الذين يزدادون ندرة وتزداد رواتبهم كلما زادت المكاتب تنافسية عليهم؟ وإذا حصل أحد العاملين على شهادات مهنية فإن مهمة الحفاظ عليه تزداد صعوبة، حتى أصبح خبر حصول أحد الموظفين على شهادة مهنية إضافية خبرا غير سار على صاحب المكتب. إن دعم رواتب العاملين في مكاتب المراجعة سيجعل المهنة أكثر حضورا، خاصة بين المواطنين، كما ستجذب لها كثيرا من الشباب السعودي المؤهل، والأمر يمكن معالجته كما تمت معالجة مديري المدارس الأهلية.
من أشكال الدعم الأخرى، إجبار الشركات عند مستوى معين من رأس المال على تقديم قوائم مالية مدققة، فلقد أقر نظام الدفاتر التجارية أنه يجب على المؤسسات التي يزيد رأسمالها على 100 ألف ريال الاحتفاظ بسجلات محاسبية معينة، لكن النظام لم يفرض تقديم قوائم مالية مدققة، ولم يفرض تعيين محاسب سعودي مؤهل. لو تم إقرار هذا، مع برنامج التأهيل المهني الدولي (برعاية هيئة المحاسبين القانونيين الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين) مع برنامج توظيف مدير المراجعة في المكاتب الوطنية، فإنني واثق (بعد توفيق الله) بأن المهنة في المملكة ستزدهر، ليس هذا فحسب، بل ستقدم نموذجا عالميا يحتذى به. هذا ما سمحت به المساحة، ولعلي أناقش هذه القضية بتوسع في مقالات قادمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي