رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أمن بشراكة مجتمعية

الأمن سلطة عامة، وهذا يعني أنها بطبيعتها سلطة إجبار وإكراه وتتطلب تنازل العموم عن جزء من حرياتهم الفردية بقصد ضبط المجتمع وانتظامه والحفاظ على استقراره واتزانه وتحقيق المصلحة العامة، وربما كان ذلك على عكس ما يرغبون فيه كأفراد، وضد طبيعتهم الإنسانية التي تجفل من الإذعان وترفض القيود، لكن الرؤية المشتركة التي ترى الأمور بعين الجماعة تجعل الأفراد يدركون المصلحة المتحققة من فرض الأمن ويغلّبون المصلحة العامة على المصالح الفردية، بل إن العقد الاجتماعي الذي تُبنى عليه الدول ينطلق في جوهره من مبدأ التنازل عن الحرية الفردية من أجل تحقيق الانضباط المجتمعي والمصلحة العامة. لقد أدركت المجتمعات أن الأمن وفرض النظام ضرورة مجتمعية، بل إن المصالح الفردية لا تتحقق دون حماية المصلحة العامة. فالناس يحتاجون إلى من يحميهم من تعدي بعضهم على بعض في تعاملاتهم التجارية والاجتماعية والمهنية، وهناك نزعة فطرية متأصلة عند الأفراد نحو الاستحواذ والتملك وحب الذات قد تطغى وتتحول إلى جشع تجعل البعض يسلبون الآخرين ويأخذون ما لا يحق لهم. ولو أن الناس تصرفوا بحكمة ورشد وبخلق رفيع لما احتاجوا إلى سلطة عامة تضبطهم وتحفظ أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم من التعدي عليها. لذا نجد حتى في تلك الدول التي تطبق النظام الديمقراطي وتنادي بالحرية الفردية وتحترم حقوق الإنسان لديها أجهزة أمنية تستهدف الحفاظ على تلك الحريات الفردية، وتبقى مسألة الموازنة بين الحرية الفردية والضبط الاجتماعي مرهونة بمستوى نضج المجتمع، وهو إلى أي مدى يمارس الأفراد الرقابة الذاتية؟ ومدى قناعتهم بالرؤية المشتركة وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة؟
تحقيق الرؤية المشتركة يتطلب إشراك الناس في عملية صنع القرار؛ لأنه كلما كانت القرارات تستجيب لمتطلباتهم ومنسجمة مع تطلعاتهم، كان ذلك أقرب لفهم مقاصد الأنظمة وأدعى لتطبيقها. والحقيقة الواضحة أن الأنظمة تستهدف خدمة الناس وتسهيل أمورهم الحياتية، ومساعدتهم على حل مشكلاتهم وتنسيق جهودهم وتعزيز العمل الجماعي، وليس للتعقيد ووضع العراقيل وحجز الناس عن تحقيق مصالحهم. وهنا ملحظ مهم، وهو أن المصالح الخاصة أمر مشروع، بل إنها في كثير من الأحيان أمر مطلوب طالما أنها تسهم في تحقيق المصلحة العامة، وبشرط ألا يكون هناك تعد على حقوق الآخرين. وكلما كان الناس قريبين من بعضهم بعضا ازداد احتكاكهم وتفاعلهم، وارتفعت نسبة ظهور المشكلات فيما بينهم كما في الأحياء السكنية، خاصة ذات الكثافة السكانية العالية. وعندها يكون الضبط الاجتماعي مطلبا لسكان الحي، خاصة في حال تعدى تأثير السلوكيات الفردية والعلاقات الاجتماعية والتجارية والمهنية إلى الغير ولم ينحصر في دائرة المتعاملين أطراف العلاقة. ولو أن أحدهم صدرت من بيته أصوات مزعجة لكان من حق جيرانه مطالبته بخفض الصوت ولا يحق له مجادلتهم بأنه في بيته وملكه الخاص وله أن يفعل ما يشاء؛ لأن تصرفه يتعدى تأثيره دائرة ملكه إلى الآخرين ويضر بهم. وهنا لا بد من استحضار القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" لتكون أساسا في التعامل بين الناس ومنطلقا لتحقيق الانضباط الاجتماعي. هذا في حال الضرر، لكن في حال المنفعة المتعدية؛ فالأمر يتطلب تعاون سكان الحي وتكاتفهم لتحقيقها من خلال نظرة مشتركة تستدعي مساهمة سكان الحي طواعية في تحقيق المنفعة المشتركة. فالمهنيون والمتخصصون والمثقفون ورجال الأعمال والدعاة والمتقاعدون يمكن الاستفادة منهم في تطوير الحي بالتطوع في تقديم خدماتهم لمساعدة الآخرين؛ تحقيقا للتكافل الاجتماعي. وكلما كان سكان الحي أكثر التحاما وتماسكا وتعاونا كانوا أقدر على معالجة مشاكلهم والحيلولة دون وقوعها ابتداء. وصدق الأمير نايف - يرحمه الله - عندما قال "المواطن رجل الأمن الأول"؛ ذلك أن الأمن لا يمكن اختزاله في تحرير المخالفة للمخالفين، فهذا لا يعالج المشكلة ويمنعها من التكرار، إنما فقط يحد منها. لذا؛ كان من الأجدر تطوير نظام أمني اجتماعي يتيح الفرصة لسكان الحي لإدارة حيهم ويشجعهم على الانخراط في العمل التطوعي ويعزز مشاركتهم في تنمية حيهم والتصدي لمشكلاته بمبادرة جماعية.
مفهوم المشاركة المجتمعية كخط دفاع أول ضد وقوع الجريمة تتبناه عديد من الدول المتقدمة والنامية، بعضها يمتلك تجربة تتجاوز عشرات السنين. لقد أدركت تلك المجتمعات أن سكان الحي أدرى وأقرب وأحرص على حل مشكلاتهم من أي جهة أخرى، وهم يمثلون حجر الزاوية في استتباب الأمن في حيهم؛ لذا شرعت في تطبيق مفهوم "الشرطة المجتمعية" الذي يقوم على أن أمن سكان الأحياء منهم وإليهم، وبالتالي هناك ضرورة لتعزيز العلاقة التعاونية بين السكان والجهات الأمنية. هذه العلاقة التعاونية تؤدي إلى كفاءة العمل الأمني وفي الوقت ذاته تجعل السكان والجهات الأمنية يرون أنفسهم في الخندق نفسه. وما يعزز هذه العلاقة أنه لا توجد حواجز نفسية بين رجال الأمن في السعودية والمواطنين فهناك تلاحم وتقارب اجتماعي وثقافي، وليس كما في بعض الدول النامية، حيث يشكل العاملون في الأمن طبقة اجتماعية متميزة. والناظر لتجارب الدول يجد أن السلطة تمارس بأسلوبين: أسلوب إيجابي وآخر سلبي. الأسلوب الإيجابي تستخدم فيه السلطة للدعم والمساندة بشكل عادل وموضوعي وليس للتحكم والسيطرة. الشرطة المجتمعية تأتي في إطار ذلك النهج، وهي بالتالي تتطلب التحول من النمط التنظيمي للشرطة التقليدية إلى نهج يعتمد اللامركزية ومنح سكان الأحياء صلاحيات وأدوارا تتيح الفرصة لهم للمشاركة في تحليل وفهم ووضع حلول إبداعية للمشكلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. ولأن المشكلات التي تواجهها الأحياء معقدة ومتداخلة فهي تتطلب أيضا مشاركة الأجهزة الحكومية الأخرى. هكذا يكون إدراك واحترام جميع الأطراف المتداخلة في العملية الأمنية، بحيث يعمل الجميع كل من موقعه في خلق بيئة آمنة ومنتجة وسعيدة في الأحياء. المجتمع السعودي بكل مكوناته مهيأ لتحقيق الأمن.. بشراكة مجتمعية بشرط تطبيق اللامركزية في الشرطة التقليدية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي