التكوين الوطني: الإرهاصات المعلوماتية
"استعد للصعب من خلال التمكن من السهل"
"لاوتزو" مؤسس فلسفة "التاوزم" في الصين.
لكل مرحلة تاريخية نقطة انعطاف في تكوين وصهر الهوية الوطنية. المقومات الرئيسة للهوية الوطنية موجودة دائماً وهي أقدم من أن تكون لوسائل المواصلات والتواصل دور مفصلي في تكوينها أو تمترسها أو تشبث الخاصّة أو العامّة بها، ولكن ما نحن بصدده هو درجة الحراك المجتمعي والهجرة الداخلية والتماثل في علاقة المجتمع مع الدولة المركزية والقدرة على الاحتفاظ على الاختلافات الخصوصية أفقياً ورأسياً، خاصة في ظل القدرة على الانعزال والقابلية للانقسامات في عالم التواصل الافتراضي. مر تكوين المملكة بثلاث مراحل مهمة، ما زلنا نعايش المرحلة الثالثة فيها، التي قد تكون أخطرها إذا لم نستطع إجادة اللعبة الحديثة. الفترة الأولى ما سبق 1970 والفترة الثانية ما عقب 1970 وحتى أواسط التسعينيات والفترة الثالثة بدأت في أواسط التسعينيات إلى الآن.
بدأت الفترة الحديثة منذ عام 1970 حينما بدأ التخطيط المركزي وتكوين شبكة مواصلات مكنت أجزاء المملكة من التعاون والتفاعل والارتباط من خلال التجارة والتعليم والهجرة الداخلية، كانت البداية الحقيقية لانحسار الحياة الريفية والزراعية التقليدية، حيث كان نحو 60 في المائة من السعوديين في القرى والأرياف يعملون في الزراعة البدائية التي لم تحقق فائضاً رأسمالياً كافياً لتكوين تنمية حديثة. فقبل هذه الفترة لم يكن هناك تداخلٌ مؤثرٌ بين الفعاليات الاقتصادية، وكانت الهجرة الداخلية لا تزال محدودة. التغيير المهم حدث من خلال الطرق الحديثة وشبكة الهاتف الرقمية لاحقاً، الذي تزامن مع انحسار الاقتصاد التقليدي. استمرت هذه الحقبة تقريباً إلى أواسط التسعينيات الميلادية حينما أصبحت الحياة المتمدنة هي الغالبة حين وصل سكان المدن إلى أكثر من 80 في المائة من السكان وبدأت المعلومة تصل إلى الناس عن طريق الأقمار الصناعية وبالتالي كسرت الاحتكار الحكومي على الإعلام، خاصة التلفزيون وتسهل نشر المعلومة. إحدى أهم سمات هذه الفترة هي تنامي الهجرة الداخلية ودورها في تقوية النسيج الوطني والتفاعل الاجتماعي والتكامل الاقتصادي والتعرف تدريجياً على استحقاقات المجتمع المدني.
ما كاد المجتمع يستوعب استحقاقات هذه المرحلة، بل أكاد أجزم أنه يحتاج إلى مزيد من الوقت لإعادة برمجة نفسه في الحياة المدنية الجديدة حتى تُفاجأ بمرحلة أسرع وتيرة وأكثر ضغطاً على مقوماته الثقافية وتوازناته العاطفية وحياة المدنية مادياً وفكرياً. أتت مرحلة الشبكة العنكبوتية وقنوات التواصل الاجتماعي التي جاءت إلى مجتمع غير مستعد، فما زال الأغلبية لا تفرق بين المعلومة والمعرفة من ناحية، ولا تفرق بين السياسة كألاعيب وادعاءات، وبين السياسة كبرامج عمل منظمة تتطلب تعاوناً وطنياً، أو أنها تعبير عن حالة اقتصادية واجتماعية متقبلة. أحد إفرازات العصر الحديث ارتفاع سقف المطالب المادية آنياً، ولذلك هناك تلاقٍ هيكلي بين هذه المطالب وبين توافر المعلومة آنياً، ما جعل الحكومات عموماً في وضع أكثر صعوبة. فالضاغط المادي موثق، ولكن ما هو جديد الضغط على المعنويات اجتماعياً وسياسياً، ولكن هي الأخرى تأتي دون قاعدة مجتمعية ذات كفاءة عالية أو استعداد لفهم مقومات المجتمع المنتج، فقبول استحقاقات الإنتاجية فردياً وجمعياً إلى تفهم دور الضريبة الضروري في بناء المجتمعات الحديثة ما زال محدوداً. هذه حصيلة الجزء الأول من الحقبة الحديثة التي رتبت منظارا توزيعيا في دولة رفاه، ولكن هذا الطرح غير مقبول لدى الكثير حتى من النخبة، الجزء التالي من هذه الحقبة بدأ مع ما يسمّى الربيع العربي. أداء هذا الجزء سوف يعتمد في الأساس على قدراتنا في التعامل مع التحديات التنموية وقدراتنا على توظيف أدوات العصر وما سوف تؤول إليه الأمور في دول المنطقة، ولكن بوادر أداء النخب في العراق وتونس ومصر لا تبشر بخير. نزوة وعدم صبر العربي أقوى عليه من الرغبة الصادقة في البناء. لعل إسقاطات الشيخ سلمان العودة تصب في هذا السياق، حينما يغلِّب الطرح السياسي على المصلحة الوطنية العليا.
لكل مجتمع عقدته الاجتماعية الخاصة به بناء على مكوناته المجتمعية وتجربته. التحدي كبير في الاستمرار في تكوين رأس المال الوطني ماديا ومعنويا من خلال تعميق الخصوصية الوطنية دون الانغلاق على العالم من حولنا. وهذا لن يبدأ قبل تشخيص الحالة بامتياز للوقوف على ما تم إنجازه، ثم المحاولة للحفاظ على المكتسبات الوطنية وتقليل المخاطر على المشروع الوطني، وأخيرا تنميته بعين على المدى البعيد. وهذا يتم بتحريك الفعاليات نحو مجتمع إنتاجي من خلال إعادة هيكلة الدعم والتخصيص وإعادة التفكير في الهجرة من الخارج بعدما استهلكت الهجرة الداخلية واستحداث نظام ضريبي تدريجي. العصر المعلوماتي قد يكون خصما إذا اخترنا الانغلاق، وقد يكون مصدر دعم إذا اخترنا الوضوح في النهج.