المعرفة وليدة النظام التربوي
المعرفة البشرية المتحققة في الوقت الراهن معرفة لا حدود لها في جميع المجالات الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وتحققت هذه المعرفة بجهود العلماء والباحثين من أنحاء الدنيا كافة، كما أنها معرفة تراكمية أسهمت فيها البشرية عبر العصور الطويلة، ولا يمكن رد الفضل في هذه المعرفة لأمة، أو عرق بعينه إلا أن الأمم والمجتمعات قد يبرز دورها المعرفي في فترة من الفترات وقد يخمد دور أمة في فترة أخرى لأسباب واعتبارات سياسية، واقتصادية، وثقافية، إذ قد يسود الخمول الشامل في مجتمع وينعكس على أدائه المعرفي إما لافتقاد المحفز السياسي الذي يستنهض الهمم ويحركها، أو لفقدان الدعم الاقتصادي الذي لا بد من توافره لاحتياجات البحث العلمي، أو لسيادة ثقافة محبطة وغير مشجعة على البحث، والتأليف وإجراء التجارب.
المحفز السياسي نجده في دولة الكيان الصهيوني إذ منذ نشأة هذا الكيان أولى عناية كبيرة بالعلماء، والباحثين، والجامعات، ومراكز البحث لإدراكه قيمة البحث العلمي، والمعرفة لما في ذلك من صلابة وقوة عسكرية واقتصادية، لذا نجد العدو سبق دولاً كثيرة على المستوى العالمي في صناعة واختراع أسلحة متعددة تشتريها الكثير من الدول.
أما القوة الإعلامية فحدث ولا حرج، وهذه القوة لم تأت من فراغ، بل جاءت بفعل عناية فائقة في تربية العقول المفكرة والمحللة والقادرة على النقاش بمنطق قوي يقنع مستمعه، ويجعل فكرته، أو أفكاره تلقى القبول، والتسليم بصحتها رغم خطئها التاريخي، أو الفلسفي.
إن العناية بعلوم كعلم النفس والاجتماع والتربية، واكتشاف أفضل السبل لبناء العقول بناءً سليماً يجعل منها عقولاً تفكر بجدية، ودونما حجر، أو منع ما مكن العدو وغيره من الأمم من التقدم، والتفوق على الآخرين في حين أن أمماً أخرى كان لها تاريخ مجيد، ومشاركة ملموسة في المعرفة البشرية تراجعت واحتلت مرتبة متأخرة لأنها حجرت على العقول وضيقت، ولم يعد أمام الناس التفكير إلا بطريقة واحدة حسبما يريد النظام السياسي، وبما يخدم مصالحه، وما عدا ذلك فهو ممنوع أو محرم ويعاقب صاحبه أقسى العقوبات، وهذا ما حدث في الدول التي اتخذت الاشتراكية نظام حياة لها، كما نجده في عالمنا العربي والإسلامي الذي يعاني أشد معاناة هذه الحالة.
المعرفة لم تعد حكراً على شعب أو أمة من الأمم، وإن كان هناك من المعارف ما يتم احتكاره لفترة من الفترات لكن التقنية الحديثة سهلت الوصول إليها، وبأسرع الطرق وأيسرها، لذا فمؤسساتنا التعليمية مطالبة بالاستفادة من هذا الزخم المعرفي الهائل والمتاح جزء كبير منه عبر وسائط التقنية الحديثة.
الاستفادة تكون من خلال تحول النظام التربوي من تقديم المعلومة إلى البحث عنها، واكتشافها من قبل الطلاب أي الأخذ بفلسفة التربية التي تجعل الطالب محور العملية التعليمية والتربوية ومحركها وقائدها، ودور الأسرة التعليمية هو الإشراف، والتوجيه في أضيق الحدود، وفي حالات الضرورة القصوى.
إن الانتقال من مرحلة تلقين الطلاب وتقديم المعرفة على صحن من ذهب كما يقال إلى مرحلة تحمل الطالب إيجاد المعرفة، واكتشافها هو ما سيوجد جيلاً واثقاً بنفسه، عاشقاً للعلم، والمدرسة لا كارهاً لها، ومن ثم منتجاً ومفكراً تفكيراً سليماً يسهم في بناء مجتمعه، وأمته بناءً قوياً صلباً.