ثقافة البحث عن الأخطاء
لو أن أحدهم سئل عن صفحة بيضاء في وسطها نقطة صغيرة.. ماذا ترى؟ لأجاب دون توان: نقطة سوداء! ترك البياض الغالب على الصفحة وركز على النقطة السوداء. وهكذا معظمنا تسترعيه الحوادث الاستثنائية ويتشاغل في ملاحقة الزلات ويفرح بالأخطاء والقصور ويسارع إلى نشرها ولا تستهويه النجاحات والإنجازات. وما يزيد الطن بلة أن هناك صراعا فكريا يعزز ثقافة البحث عن الأخطاء بخلق تحزبات فكرية ومذهبية تطرح أحكاما مسبقة وتسعى لإثباتها تارة بتكبير الأمور وإخراجها عن سياقها، وتارة بقلب الحقائق أو تشويهها، ومرات الأخذ بجزء من الحقيقة للتضليل وإثبات الجانب السيئ، وهكذا تكون هناك صناعة للتأزيم وتأجيج للخلاف وخلق شعور عام في المجتمع من عدم الرضا وأن الأوضاع تسير للأسوأ. وأخطر ما يكون على المجتمعات عندما يتولد إحساس بالظلم، فهو أشد من الظلم نفسه لأن الظلم يزول بزوال مسبباته، لكن الإحساس بالظلم، وهم متجذر في أعماق الإنسان، يبقى لا يزول، إنما يتزايد مع مرور الوقت تؤكده الأحداث التي يراها بعين المظلوم. والإحساس الوهمي بالظلم يغذيه التحزب الفكري فينتشر في أوساط العامة فيأخذهم الحماس والحمية والعصبية دون تروٍ وتقديم الحكم الشرعي والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة وتغليب صوت الحكمة وإعمال العقل والبحث عن الحقيقة، وفي المقابل هناك من يركب موجة التغريب وينظر للمجتمع وثقافته وهويته بنظرة دونية ويصرح بتخلفه ويتجرأ على مقدساته بإسفاف وسطحية جالبا قيما وأفكارا من خارج الحدود ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. وهكذا تتفاقم المشكلات في المجتمع بالتركيز على الأخطاء والاصطياد في الماء العكر والخوض في الشائعات وأعراض الآخرين، دون الالتفات لما يصلح المجتمع ويحقق المصلحة العامة. وعندما يكون الحدث عابرا بسيطا يمكن تجاوزه، لكن يتم التوقف عنده ونسج الحكايات الخيالية حوله يتحول إلى كرة ثلج تكبر وتكبر حتى تغدو كالطود العظيم ومن ثم تشغل الرأي العام وتحدث شرخا كبيرا في المجتمع يعطل مشروعنا التنموي ويضعف لحمتنا التي هي أساس كينونتنا وقوتنا والعامل الأهم في مواجهة التحديات التي تحدق بنا من كل حدب وصوب.
هل يعني أن مجتمعنا خال من العيوب والأخطاء؟ وهل يلزمنا السكوت عنها متى ما وجدت؟ والجواب عن السؤالين بكل تأكيد ووضوح "لا"، بل ليس هناك من يدعي أنه لا توجد أخطاء في مجتمعنا، وكيف لا توجد وهو مجتمع إنساني تعتريه ما تعتري باقي المجتمعات؟ لكن المهم هو تعريف الخطأ وتحديد حجمه ومداه ومن ثم تصحيحه من قبل المسؤول صاحب الصلاحية. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصرف حسب دائرة اهتمامنا التي عادة ما تكون أكبر من دائرة تأثيرنا وسلطتنا، فكما الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وهذا يعني أن هناك مستويات للمسؤولية، وبالتالي حتى لا تحدث فوضى في المجتمع كان لا بد من أن يلتزم كل فرد حدوده وإلا دخل المجتمع فتنة الصراع والخلاف. كما أن وسائل الاعتراض تتنوع حسب الموقف وحسب الاستطاعة يحكم ذلك مبدأ درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة ومن منطلق لا ضرر ولا ضرار. وكلما سادت الحكمة في معالجة ما يشجر بين الناس على أساس المجادلة بالتي هي أحسن كان ذلك أدعى إلى النقاش الهادئ الموضوعي الذي مقصده الوصول إلى الحقيقة وليس تخطئة كل طرف الآخر.
لا شك في أن خيرية الأمة هي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مرآة الأمة وصمام الأمان والدافع نحو مزيد من التطور والرقي بالمجتمع. لكن هذه الشعيرة اختزلت في دائرة ضيقة ولم يتبين لكثيرين مفهومها العميق ولا فن أدائها ولا مقصدها العظيم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعمرانية، وعلى جميع المستويات والأفراد والجماعات والمؤسسات. وإذا ما طبق بشموليته فإنه يكون آلية للتنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تخرجنا من نفق التخلف إلى أفق التقدم الواسع وتعيدنا إلى قيادة العالم كما كان عليه سلفنا. إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي أن يُقوّم المرء نفسه ويسعى جاهدا في إصلاحها وتهذيبها واتباع الهدي النبوي في معاشرة الناس بالحسنى واستمالة قلوبهم ليكون مثالا يقتدى به، فذلك أدعى في الوصول إليهم وتحبيبهم للفضيلة ونبذ الرذيلة. أما على المستوى المؤسسي فينبغي أن يكون هناك تدريب للعاملين في هذا المجال ليس بالعلم الشرعي وحسب، لكن التأكيد على الجوانب السلوكية والأخلاقية وفن التعامل مع الآخرين من منطلق المبادئ والقيم الإسلامية.
إن ما حدث في "الجنادرية" والذي تم تصويره بطريقة مجتزئة على أنه تعد على موظف الهيئة ما أثار حفيظة كثيرين من العموم حماسة وتعاطفا أساسه افتراض أن منسوبي الهيئة مبرأون من الخطأ. لقد كان من الأجدر رؤية الموقف من زاوية أن هناك إطارا مؤسسيا ونظاما عاما يحكم الجميع، وأنه لا يجوز التعدي على صلاحيات الآخرين، إنما اتباع الوسائل النظامية التي تحقق الهدف. ولو على افتراض أنه وقع خطأ من قبل المنظمين (وهو ما لم يحدث عند مشاهدة المقطع كاملا) فإن الخطأ لا يعالج بالخطأ، وأن على الشخص موازنة الأمور قبل الإقدام على الإنكار، فربما ترتب عليه حصول مفسدة أعظم. إن الوطن يستحق منا التكاتف في الإصلاح والتطوير والمساهمة في التنمية منطلقين من رؤية مشتركة ليكون توضيح الأخطاء من أجل البحث عن الأفضل وتعزيز اللحمة الوطنية والتصدي للتحديات.