المياه الوطنية والمهمة الاستراتيجية
نمو سكاني كبير في جزيرة صحراوية شحيحة المياه أمرٌ مقلق، ومصدر القلق ليس شح المياه بل الخوف من سوء الإدارة والفساد، وما يؤكد ما أقوله تقرير الأمم المتحدة عام 2006 م الذي ركز على قضايا الحوكمة باعتبارها جوهر أزمة المياه في معظم دول العالم التي تعانيها، حيث ورد فيه: ''هناك ما يكفي من المياه للجميع'' و''عدم كفاية المياه في كثير من الأحيان هو بسبب سوء الإدارة والفساد، وعدم وجود المؤسسات المناسبة، والجمود البيروقراطي ونقص الاستثمار في القدرات البشرية والبنية التحتية''.
لن أمعن في تحليل مشكلة المياه في بلادنا، التي تتحول أحياناً وفي بعض المناطق والمحافظات خصوصا في فصل الصيف إلى أزمات يعانيها المواطن مالياً ونفسياً، أقول لن أمعن في تحليل أسبابها وآثارها الحالية والمستقبلية والقلق الذي ينتابنا من مستوى التفكير التقليدي السائد حيالها والإجراءات المتخذة للتصدي لها اليوم ولأكثر من 50 سنة مقبلة على الأقل وسأركز على طرح مساحة تفكير لحلول استراتيجية لهذه المهمة المهمة والحيوية بل ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية أيضاً.
ولننطلق من قضية ''الحوكمة'' التي لها دور بارز في تنمية الشركات لما تتضمنه من مفاهيم دافعة نحو النمو والإبداع والنجاح والريادة كالوضوح والشفافية والمساءلة والعدالة وحفظ الحقوق، ولننطلق من ''الحوكمة'' لأن ''الماء'' في بلادنا أصبح مصير معظمه في يد شركة يجب أن تطبق مبادئها بالتمام والكمال وهي ''الشركة الوطنية للمياه'' والتي توفر وتقدم حسب نظامها الأساسي جميع خدمات قطاع المياه الجوفية وقطاع توزيع مياه الشرب وتجميع الصرف الصحي ومعالجته على أسس تجارية سليمة.
والحوكمة رغم إيجابياتها الكثيرة على الشركات ومساهميها والمستفيدين من خدماتها والاقتصاد الوطني بالمحصلة إلا أن معظم الشركات خصوصا في عالمنا النامي تتحاشاها لأن معظمها ينظر إلى مفهوم الحوكمة على أنه تدخل في سياساتها الإدارية وفي أسرارها ما يفقدها القدرة على التنافس القوى والفعّال هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يرى الكثير من قياديي الشركات أن الحوكمة تجعلهم في مستوى من الإفصاح والشفافية الذي يلزمهم بتنفيذ الخطط وفق الجداول الزمنية المعلنة دون أعذار ما يجعلهم عرضة لانتقادات النخب الاقتصادية والسياسية والإعلامية حال إخفاقهم لأي سبب كان وبالتالي تعرضهم للمساءلة وما يترتب عليها.
ولنعد إلى حوكمة ''شركة المياه الوطنية'' ذات المهام الحيوية التي لا شك أنها حققت إنجازات أكثر من ممتازة في إطار التخطيط التقليدي منذ فترة تأسيسها وكلنا نلمس آثار ذلك ونتمنى لها المزيد من النجاحات في إطار رؤيتها لتحقيق الريادة في تقديم خدماتها بمعايير عالمية ورسالتها في تقديم خدمات متميزة موثوقا بها في مجال المياه والصرف الصحي بأسلوب اقتصادي، وبكل تأكيد ريادة المجال ليست بالأمر الهين وتتطلب تطوير برامج تنفيذية ابتكارية وقدرات بحثية ومساحات تفكير غير مسبوقة وتحالفات فعّالة تتمحور حول الريادة بما تعنيه من رئاسة وقيادة لمجال نقل وإنتاج المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، وهو ما لا يتحقق إلا بالقدرات الابتكارية والاختراعات الحديثة والتطوير النوعي بالتزامن مع خفض التكاليف والأسعار.
وإذا أخذنا قطاع المياه في المملكة، فإن المطلب الأول لنا أن تكون شركة المياه الوطنية المملوكة بالكامل للدولة شركة رائدة في هذا المجال بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن وللأمانة لم أجد من الوضوح والشفافية من قبل الشركة ما يؤكد أن الشركة تتمحور حول رؤيتها لتكون رائدة هذا المجال، فكل ما ينجز ويعلن هو في إطار الأعمال التقليدية في بيئة شحيحة المياه مترامية الأطراف تتطلب أفكاراً استثنائية وخلاقة في مجال نقل وتوزيع المياه المحلاة لتصل لمستهلكيها بالجودة المعيارية بأقل نسبة هدر معيارية وبتكاليف متناولة لجميع سكان المملكة إضافة إلى تحقيق الاستهلاك المعياري للفرد دون أعذار، إضافة إلى جمع مياه الصرف الصحي ومعالجتها وتوزيعها للمزارع والمصانع وفق خطة الدولة في هذين المجالين على وجه الخصوص.
أجزم أن بلادنا تخطو خطوات ممتازة ـــ وإن كانت بطيئة بعض الشيء ـــ في جميع القطاعات والمجالات الاقتصادية لتخفيف الاعتماد على النفط ولتحقيق متطلبات التنمية المستدامة ومن ذلك توفير المياه الصالحة للشرب والاستخدام الزراعي والصناعي بل حتى البيئي والترفيهي بما يتناسب ومعدلات نمو الطلب عليها وبالتالي فنحن نرغب في أن تنهض شركة المياه الوطنية بمهمة استراتيجية استثنائية تبهر الخارج قبل الداخل، نعم نتطلع إلى أن تلعب الشركة بالتعاون مع وزارة الكهرباء والماء المعنية بإنتاج المياه دوراً استراتيجياً في إعادة تشكيل بيئتنا الصحراوية باستخدام المياه المعالجة على سبيل المثال لتكون بيئة خضراء صحية مبهجة تتخلل مدنها الممرات المائية إضافة إلى دورها في توفير المياه المحلاة وإيصالها لجميع المستهلكين وترشيد الاستهلاك معيارياً. قد يكون ما أطرحه يتضمن شيئا من الأحلام أو الخيال ولكن كما نعرف جميعا لم تعد المسافة كبيرة بين الحقيقة والخيال والمستحيل والممكن إذا فكرنا بمساحات تفكير غير مطروقة وإذا تضافرت الجهود الابتكارية والبحثية مع جهود أصحاب الفكر المالي الابتكاري لتحقيقها فإننا نصل لذلك ـــ بإذن الله ـــ كما وصل غيرنا.
ختاما أتطلع إلى أن تعلن شركة المياه الوطنية برامجها الاستراتيجية الاستثنائية المُزمنة مرحليا وشركاءها في كل مرحلة والاستراتيجيات الذكية غير المسبوقة التي ستطبقها لإنجاز تلك البرامج التي تتمحور حول الريادة العالمية بما يوفر الموارد المائية المستدامة التي تتجاوز توفير المياه للاستخدامات الأساسية للاستخدامات البيئة والترفيهية وكلي ثقة بأن لدينا من الموارد البشرية والإمكانات التعاونية ما يحقق ذلك في إطار التطبيق الأمثل لمبادئ حوكمة الشركات.