الواقع المرير لكليات الأعمال (2 من 2)

تطرقت في سلسلة مقالات سابقة للواقع المرير الذي تعيشه كليات الأعمال في الجامعات السعودية وما تمر به من نكسة وتراجع وصراع غير مبرر، وبينت الأسباب الجوهرية وراء كل ذلك من وجهة نظري، ومنها بعد الكثيرين عن فلسلفة العلم وأدبياته، ما أدى إلى صراعات فكرية أغلبيتها غير مبنية على آراء علمية، بل قناعات واجتهادات شخصية.
وكنت بالفعل أريد أن أبتعد عن هذا الموضوع - حتى لا أزيد الهوة بيني وبين من أحب - إلا أنني فوجئت بأن البعض يتهمني بتسطيح الأمور وأنني أزج بأفكار من أجل ملء السطور دون سند علمي، لذا أريد أن أقول لهؤلاء إنني لم آت بكل هذا من بنات أفكاري أو من خيالي المتعالي، بل من الواقع الذي أعيشه منذ ما يقرب من 25 عاما ومقارنته بما تعلمته وبذلت فيه أثمن سني عمرى. فأنا أعيش واقع كليات الأعمال وأرى بأم عيني التخلف الذي تعيشه والانحطاط الفكري الذي تنمو فيه، فالمناهج هشة والأساتذة وإن كانوا تحت مظلة كلية واحدة إلا أنهم منقسمون، مشرذمون، متناحرون لا يجمعهم الحوار ولا تلملم شتاتهم البيئة التي ينتمون إليها ولا تمثل لهم أصول العلم شيئا مذكورا. وفي ظل حالة الضياع هذه سطت بعض الكليات خفية وسلبت كثيرا من تخصصات الأعمال، فالجودة أصبحت تنتمي إلى الطب تارة، وهي البنت المدللة للتربية تارة أخرى، والقيادة انفصلت بذاتها حتى أن من يحصل على دورة لمدة أسبوع أو أسبوعين يصبح فقيها في نماذج القيادة ويقيم الدورات ويعقد المؤتمرات ولو كانت خلفيته لغة عربية أو تربية إسلامية.
وفي هذا المقال أريد أن أبين منهجا أساسيا يجب الأخذ به إذا أرادت كليات الأعمال أن تستعيد رونقها، وتتسنم نظيراتها، ويعجب الناس بها، وتكون لها هوية، وتضع لها رسالة، ألا وهي دراسة الفكر الإداري من بزوغه حتى عصرنا هذا. يجب على منسوبي كليات الأعمال دراسة وإدراك ووعي الفكر الإداري منذ نشوئه على يد أبي الإدارة العلمية فريدرك تايلور إلى عصرنا هذا، فالذي ألاحظه أن الكثيرين - ومنهم أساتذة يدعون أنهم ينتمون إلى كليات الأعمال - لا يعرفون تاريخ الإدارة والأعمال وكيف تكون؟ وما منهجيته؟ ومن هم رموزه؟ وكيف أسهمت العلوم على مر العصور في تطوره؟
أظن أن الجميع - المؤيدون لي والمعارضون – يتفقون معي على أن تخصصات الأعمال جميعها ترجع إلى الاقتصاد، فالاقتصاد هو الحاضن الرئيس لتخصصات الأعمال، لذا يمكن القول إن الفكر الإداري انبثق من علم الاقتصاد وتمت ممارسة الإدارة منذ أزل إلا أنه لم تكن لها نظريات أو نماذج، وهذه المرحلة تسمى مرحلة ما قبل الكلاسيكية. ثم أتت الإدارة العلمية وتم تصنيفها إلى مدارس عدة أولاها المدرسة الكلاسيكية على يد ماكس ويبر تلتها مدرسة العلاقات الإنسانية ومن أبرز منظريها التون مايو، فالمدرسة التجريبية التي ركزت على الإنسان باعتباره العنصر الوحيد للإنتاج. أتت بعد ذلك إسهامات علماء الاجتماع عن طريق دراسة المنظمات باعتبارها وحدات اجتماعية ثم إسهامات مدرسة النظم فالدراسات الكمية التي أضافت الكثير إلى هذا العلم. بعد ذلك أتت الإدارة المعاصرة ومن أبرز ملامحها النموذج الياباني في الإدارة ونظرية الثقافة التنظيمية وكيف تختل عن الحضارة الطائفية ثم إدارة الجودة الشاملة ثم ظهور فكرة هندسة الإدارة الذي يطلق عليه الهندرة Business Reengineering التي تعني إعادة هندسة الأعمال، ثم تطور الفكر الإداري عندما دخلت إليه الإدارة الرقمية التي انبثقت منها التجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني والتسوق الإلكتروني.
هذه لمحة تاريخية مختصرة جدا عن تطور الفكر الإداري منذ ما قبل الكلاسيكية حتى اللحظة. ومن خلال هذا العرض التاريخي - الذي لم أقم أنا بتوثيقه أو إعداده، بل هو موجود في أدبيات الإدارة والأعمال وهو مشاع ومباح لكل من أراد أن يطور فكره وينمي معرفته - يتبين لنا أن هناك الكثير من العلوم التي ساهمت في فكر الأعمال مثل علم النفس، والرياضيات، وعلم الاجتماع، والسلوك، علم النفس الاجتماعي، وعلم دراسة الإنسان (الإنثروبولوجي)، وعلم السياسة، والقانون، ومنهج النظم وأخيرا التقنية. كل هذه العلوم وغيرها أسهمت بشيء ما في مجال الإدارة والأعمال حتى أصبحت هذه الإسهامات متداخلة ومتشابكة ويصعب فصل بعضها عن بعض، وبهذا يمكن القول إن من يطبق فكر الأعمال في أي منظمة تهدف إلى الربح عليه أن يلم بعدة مهارات سلوكية وكمية وتقنية ومعرفية، كما ينبغي عليه أيضا أن يتعرف على آليات عمل جميع إدارات المنظمة التي يعمل فيها ويعرف كل إدارة بما تحويه من مهارات ومهام وعلاقتها بالإدارات الأخرى. فلا يكفي لمدير التسويق - على سبيل المثال - أن يصمم برنامجا تسويقيا مثاليا دون أن يجيد مهارات تحفيز الموظفين (موارد بشرية) ويكون قادرا على قراءة القوائم المالية (محاسبية) وفي الوقت نفسه ينمي مهاراته القيادية (التوجيه) وتكون لديه مقدرة على التحليل المالي (تمويل). كل هذه عبارة عن مهارات ومعارف تتعلق بإدارات أخرى غير إدارة التسويق إلا أنه (أي مدير التسويق) يجب أن يتقنها ويعرفها وألا تقتصر معرفته على التسويق فقط، وهذا ينطبق على الإدارات الأخرى: العمليات، المالية، المشتريات، وغيرها.
لذا نريد أن نخلص فنقول إن العلوم التي ساهمت في تكوين فكر الأعمال أدت إلى تداخل عند التطبيق، فالمدير الناجح هو الذي يعرف مهام عمله بالضبط وفي الوقت نفسه يعرف كيف تعمل الإدارات الأخرى والحدود بين عمله وبين عمل الإدارات المشابهة له والمختلفة. وهذا الموضوع يقودنا إلى الجانب الآخر الذي أسقط كليات الأعمال قبل ولادتها في جامعاتنا وهو عدم مقدرة منسوبي كليات الأعمال على التفرقة بين التخصصات ودمج بعض التخصصات بالبعض الآخر، أو المبالغة في الفصل بينها، أو جعل الأصل فرعا والفرع أصلا.. وهذا يحتاج إلى تفصيل لعلنا نعطيه حقه في مقالات قادمة إذا أراد الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي