أفكار تشليح!
تأملات الإثنين
.. شيءٌ محيرٌ ومؤسف أن نعلم أننا لا نجد ذواتنا الحقيقية. القليل فعل، ووصل إلى ساحل يخصّه في السلوك والأفكار من خبرته وتأملاته وطرق فهمه، وعدم قبول الأمور كما كانت قبله.. هؤلاء القلة هم مَن وجدوا ذواتهم الأصلية وأفكارهم الأصلية، وعندها بدأوا يطوّرون هذه الأفكار، ويغيّرون في أنفسهم وفي العالم. أما الذين يستنسخون أفكار الآخرين ويؤمنون بها تلقائياً ويطبقونها وكأنها رتم حياة مفروض، فهؤلاء لم تنمُ عندهم الأفكارُ الشخصية ولا الذات الشخصية، وإنما أفكارُ خردةٍ من سوق التشليح.. أفكار "سكندهاند"!
وأصحاب الأفكار والذوات التشليحية تضعف قراراتهم الكبرى فهم لا بد أن يستخدموا أفكاراً مستعملة، ويقوموا بسلوكٍ مستعمل، كي تعمل وظائفهم الحياتية.. هؤلاء من باب أولى أنهم لن يأتوا بأفكار جديدة ولا سلوكياتٍ أكثر عطاءً وإنتاجاً جديدة، لأن ذواتهم الكلية ليست جديدة، وستعيقهم عن الإبداع والتغيير من أجل أنفسهم أولاً، - تغييرُ النفْس ينعكس مويجات متتابعة تصل لضفاف الآخرين - وسبب عدم الاستطاعة أن أفكارهم لا تتجاوز سقوف أفكار الآخرين الذين يستخدمون إنتاجهم الفكري والسلوكي، وينتهون بلا أن يفطنوا إلى اعتقالٍ فكريٍ حقيقي بجُدُرٍ وأسقُفٍ وقضبان لا يتعدونها، وعدم الفطنة هذه متحكمة فيهم إلى درجة أنهم يعتقدون أنهم في برّ الحرية.
أصدق مثل قيل وصفاً للإبداع والتقدم البشري ووضع العقل في مكانه السامي الحقيقي، المثلُ الذي يقول: "لا حدود للعقل إلا السماء". لا يمكن للعقول أن تنمو نمواً طبيعياً صحياً إلا أن تطير بأجنحةٍ قويةٍ في أجواء مفتوحة، وهذه الأجواء المفتوحة هي عدم الخنوع لأفكارٍ سابقة، فقط لأنها موجودة! إنما نمحّصها بعقولنا الأصلية وذواتنا الأصلية فنقبلها أو نرفضها معلَّلة بالأسباب العلمية، أو إن شئتم بالمنطق التبريري العلمي. وقد تخطو الأفكارُ الأصلية خطواتٍ أكبر وهي تحلّق بحرية ودون أسقف سابقة التحديد لتأخذ ذات الفكرة السابقة التي آمنت بها بعد تصفية عقلية وذاتية وتنمّيها وتطورها وتضيف لها بُعداً أو أبعاداً جديدة.
ولكي تكون العقولُ أصليةً بأفكارها فلا بد من وسيلة التأصيل، وهو البناء الأصلي.. كل طوبة فيه من معارف مختلفة بلا توقف لتشييد المبنى الفكري الأصلي الواسع. دون معرفة لن يتطور العقلُ ولا الشخصية ولا الإنتاج.. تصوّر لو أن فلاحين معزولين الآن يقومون بالحرث والزرع وتنقية التربة وحصد المحاصيل باليد، لك أن تتصوّر البطء والإجهاد العظيم مقابل إنتاج ضئيل. هؤلاء الفلاحون لم يغيّروا أفكارهم، ولم تتعدَ هذه الأفكارُ ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، فهي المعرفة الوحيدة التي وعوا عليها. لو خرج فلاحٌ منهم وطلب معرفة جديدة خارج بيئة الأفكار التي قيّدت وجمّدت وقولبت أفكاره، فسيأتي لجماعته بجرار آلي، وحاصد آلي، ويتضاعف الإنتاج أضعافاً، لأنه بحث عن معرفةٍ جديدةٍ فتقدم بها عن مجتمعه ونفعهم نفعاً عظيماً.. وفي هذا الإجراء تحرّر عقله وتكوّن عقلاً أصلياً له، وسيعمل بهذا العقل الأصلي في التغيير حوله.. ومَن يعلم مع الزمن قد يخترع آلة زراعية تفوق كل ما هو معروف مع تصاعد الوقت والمعرفة والخبرة.. ألم نؤمن أن حدود العقل هي السماء؟
الوظائف الفسيولوجية للكبد والمعدة والكُلى هي إرثٌ جينيٌ لا يتغير، وهذا أمر حيويٌ أراد فيه اللهُ به أن يُجرِي عيشَنا على الأرض. إنما العقل، جعل أهم وظائفه إنتاج الأفكار وهي لا بد أن تكون أصلية من العقل المُنتِج وإلاّ مع الوقت يضمر ذاك العقل. من هنا يتضح أن أفكار التشليح لن تفيد في الإجابة عن أسئلة عن المعاني الكبرى، والغرض من الوجود، وإدراك مدى الحياة القصير لتنتج فيها أموراً نافعة لك وربما لأولادك من بعدك من الفهم لهذه المعطيات عن طريق اكتساب المعارف المتعدّدة. وهنا تتحوّل الذات والأفكار الخردة، إلى أصلية، تمثل أصحابها كما أراد الله لهم أن تتميّز شخصياتهم عن الآخرين.