هيكلة الرواتب وبناء نظام جديد للخدمة المدنية

عند متابعة ارتفاع الأسعار الملحوظ والمستمر، وارتفاع معدل التضخم في جميع المجالات الحيوية التي لا يستطيع أحد الاستغناء عنها، في ظل تدني رواتب شريحة كبيرة من الموظفين، وعدم مواكبة هذه الرواتب للارتفاع المستمر في الأسعار، يتبين لنا الخلل الذي سيحدث في طرفي المعادلة بين ارتفاع الأسعار ومواكبة الرواتب لها.. ذلك قادني للتفكير مليا في دراسة تقدم بها الزميل في منظمة الرؤساء الشباب الوزير مروان خير الدين، عندما كنا في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث تحدث حينها باختصار عن الدراسة التي تهدف إلى زيادة رواتب موظفي الحكومة اللبنانية شريطة ربطها بالإنتاجية وبما يشمل تقليل ساعات العمل، ووضع نظام للمكافآت يأخذ في الاعتبار المخاطر المرتبطة بالوظيفة والإنتاجية، كما ما زلت أذكر الزيادة قبل الأخيرة للرواتب في القطاع الحكومي التي كانت عند عودة الملك خالد -رحمه الله- من رحلته العلاجية، وأمره الكريم بمعاقبة من يستغل زيادة الرواتب في رفع الأسعار، حيث كانت في ذلك الوقت أسعار العديد من السلع لا تقارن بتاتا بأسعار اليوم، وعلى سبيل المثال كان سعر السيارة "الكابرس" أقل من 30 ألف ريال واليوم سعرها أكثر من 100 ألف ريال.. بعدها أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله وأدام عليه الصحة والعافية- أمره الكريم بزيادة الرواتب بنسبة 15 في المائة مقسمة على ثلاثة أعوام متتالية، وخلال هذه الأعوام تضاعفت الأسعار بشكل كبير جدا، وشاهدنا معدل التضخم في ارتفاع مستمر، ولو قارنا أسعار بعض السلع عند الزيادة الأولى وأسعارها عند الزيادة الثانية لوجدنا أن بعضها ارتفع بنسب ضخمة جدا تفوق 500 في المائة، الأمر الذي يؤكد بدوره أهمية زيادة الرواتب، ومهم هنا عدم استغلال أي زيادة في رفع أسعار السلع دون مبرر صادق، فمن المعروف أن ارتفاع ‏‏الأسعار المزمن "التضخم" يشكل خطرا حقيقيا على الاستقرار والنشاط الاقتصادي في أي ‏‏دولة سواء كانت متقدمة أو نامية، إلا أنه في دول الأسواق الناشئة تكون الآثار ‏السلبية للتضخم أكبر وأعمق.
يؤكد الكثير أن التضخم ليس ظاهرة محلية أو إقليمية، بل عالمية وهذا صحيح، فمعظم دول العالم تعاني اليوم من ارتفاع في معدلات التضخم، حيث لم يقتصر هذا الارتفاع على الدول النامية فقط، بل وصل إلى الدول الصناعية التي تتسم بنوكها المركزية بالتطور، ووضعها استهداف التضخم هدفا نهائيا لسياستها النقدية، ولكن هل نبقى مكتوفي الأيدي أمام هذا التضخم؟ فعندما تسأل بعض المسؤولين لماذا لا تتحسن الخدمة المقدمة للمواطن ولا تتواكب الرواتب مع التضخم؟ يكون الجواب جاهزا.. إن نظام الخدمة المدنية وسلم الرواتب لا يساعدنا في تحقيق ذلك.. وفي نفس الوقت نتساءل لماذا الكثير من الوزارات تلتف على أنظمة التوظيف في نظام الخدمة المدنية وتلجأ للعقود الاستشارية وهي طريقة معمول بها في كل الوزارات تقريبا لتوظيف المؤهلين المطلوبين لشغل وظيفة معينة تستلزم مؤهلات معينة؟ أو صرف بدلات وخارج دوام ليس حقيقيا كنوع من التعويض عن الرواتب المنخفضة؟
من وجهة نظري أنه يجب الآن النظر في زيادة الرواتب وإعادة هيكلتها بدون إحداث تضخم، وبدون تأثير ملموس في ميزانية الدولة ويكون التمويل للزيادة من مصادر لا تؤثر بشكل مباشر في كل المواطنين وكمثل رفع رسوم السجل التجاري إلى 1200 ريال سنويا بدلا من 100 ريال، إضافة إلى إحداث رسوم على عمليات الإفراغ ونقل الملكيات في كتابة العدل، وغيرها من الرسوم التي لا تؤثر في محدودي الدخل، كذلك إمكانية رفع سعر بيع المحروقات، وبذلك نحقق هدفين مهمين وهما الترشيد والاستفادة من مبلغ الزيادة في توفير تمويل زيادة الرواتب، إضافة إلى الحد من عمليات التهريب التي تستغل السعر المتدني للوقود لدينا.. ولهذا الغرض أقترح تكوين لجنة مكونة من وزارات: المالية، العمل، التجارة والصناعة، الخدمة المدنية، ومؤسسة النقد، لدراسة الزيادة ومقدارها وكيفية تمويلها بدون التأثير على الميزانية ومصروفاتها، وكذلك إيجاد آليات لعدم حدوث تضخم، وتأخذ في الاعتبار العرض والطلب في السوق والأهم الاستفادة من تجارب الدول التي تهتم بقياس الإنتاجية، مبادئ الجودة ورضا المستفيد منها.. ومن المهم هنا أن تكون الزيادة وإعادة هيكلة نظام الخدمة المدنية قادرة على إعطاء الفرصة للمسؤولين لتوظيف المؤهلين القادرين على تحقيق الخطط والرؤى التي يتطلعون لها ويتطلع لها الوطن والقدرة على المحاسبة وتغيير النظرة للوظيفة الحكومية على أنها دائمة ولا يمكن المساس بها، وفي المقابل إعطاء الفرصة للمسؤولين لمكافأة المجد ومعاقبة المتهاون والكسول وفق آليات منهجية حديثة وواضحة للمسؤول والموظف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي