ماذا؟ «الربيعُ العَقَدي»؟!
.. أي إنسان ينمو في بيئة الانتظام والمحبة الكلية وسعة الصدر والعقل، سيكون له مع الوقت إحساسٌ، يكاد أن يكون ماديّا، بأن له سعة مكانية وزمانية في هذه الحياة، وأن أي مشكلةٍ تشتعل من أول شرارتها يستطيع بسهولة كتمها قبل أن تلتهب نارا، ويستمر في سعة حياته وعقله وصدره. وعلى النقيض، أي إنسان لا ينمو في بيئةٍ منتظمةٍ فيها أجواءُ التفهّم والمحبة وسعة الصدر والعقل، سيكون له مع الوقت إحساسٌ، يكاد أن يكون ماديّاً، بأن مكانه يضيق في هذا العالم، وهذا الضيق يسبب التبرم والغضب والميل للقراءة الخاطئة، وإشعالُ ما هو ملتهبٌ أصلا.
وهنا سرّ التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، ويبدو أن ''التويتر'' بدأ يتسيد في موضوع إبداء الرأي الخاص بلا رقيب ولا حسيب، وللإنسان عشقٌ غريزيٌ لحرية إبداء الرأي، وأقول غريزياً بمعنى أن أي قوةٍ لن تمنع غريزة الحرية من الظهور، فهي ستنهمر لو وجَدت خرما صغيراً في حصنٍ منيع.
وهنا يبدو أن ''التويتر'' قدّم هذا الخرم الصغير في بعض الحصون المنيعة، ونعرف أن سدودا ماردة انهارت بطوفان المياه من جراء شقٍّ صغير في جرمه العظيم. وفعلا بدأ السيلُ والطوفانُ الإنترنتي.. ولن يقف، ولن يستطيع إيقافه أحد إلا بمشيئة فوق مشيئة البشر.. ما دام موجودا من منبعه أو أصله. لذا من العبث أن تحاول أي سلطة إقليمية أن تحول دون استخدامه أو تمنع وجوده، إلا إن اجتمعت كل دول العالم واتفقت على ذلك، وباتفاق أولي من الشركات التي تتحكم في خادمات شبكة الإنترنت الكونية. وبأفقي المحدود.. يبدو لي أن هذا الأمر مستحيل!
سأذكر المناسبة وراء تلك المقدمة، إنها جلسات الحوار الوطني الأخيرة التي أُقيمت في الدمام في المنطقة الشرقية من البلاد. وسيكون كلامي ناقصا بالأكيد لأني تخلفت عن الحضور في جلسات اليوم الثاني، للحالة الصحية البالغة الحرج التي كان يمر بها خالي العزيز إبراهيم الصالح السحيمي، ثم وفاته - رحمه الله - في مساء اليوم ذاته. وأسألكم له الدعاء.
كانت الجلسة الأولى التي حضرتها متفقة مع روح ''التويتر''، فالعقول المجتمعة من الجنسين في حالتهم النفسانية والحضورية، وكأنهم يغردون بآرائهم الحرّة في ''التويتر''.. لذا كان اللقاءُ فعلا نوعيا في درجة قوة الرأي الحر.. وهنا يجب أن أقول شيئا، فقد سمعت من قال إن ''التويتر'' أثر في السلطات فمنحتْ مساحة حرية أكبر.
وأرى هذا خطأ ''طبيعيا'' فظيعا. فالحرية لا تُمنَح لأن لا أحد يملك الحرية كي يتحكم في منحها، ولكن هناك من يمنعها. الحرية مثل الهواء يدور في الرئات لا يمنحه أحد، وإنما رئاتنا تأخذ منه ما شاءت، وهذا من أروع القوانين التي زرعها الله في ضمير الكون وقوانينه، وتمثل الحرية الحقيقية تماما، تأخذ ما يكفيك، وتترك الباقي لغيرك ليكفيهم. الهواءُ لا يُمنح، ومن الممكن جدا أن تمتد يدٌ وتعصر رقابنا وتمنع عنها الهواءَ الحرّ الطليق نعمة البشرية الكبرى. لا أحد يملك الحرية، لا مخازن موجودة تُخزن فيها بضاعةُ الحرية ثم تمنح بالقسطاس أو بضده.. وكالهواء، علينا أن نصل إليه إن لم يوجد سائبا طليقا كما أراده الله.
في صالة الحوار كانت الآراء تعرف أن الحرية تدور في المكان ولم تُمنع، صحيح أن رؤساء الجلسة وأمين عام الحوار الوطني ألقوا كلمات ''تمنّوا'' فيها على الحاضرين الالتزام بمنطق يخلو من التجريح، ولكن كانت ''أمنيةً'' وليس ''طلَبا''، لأن منطقَهم وذكاءهم يسعفهم بأنهم لا يستطيعون التحكم في عقول وضمائر الآخرين التي تنتج آراءهم.. وهذا ما حصل.
في الجلسة التي حضرت كانت القاعتان مليئتين بالشابات والشباب ومن أجيال سبقتهم، تكاد لا تعرفُ عُمْرَ المتكلم والمتكلمة من ضخامة الآراء وجمال التعبير عنها، ورباطة الجأش التي سادت الجميع، وأكّدتْ انكسار خرافة العقل السني، كان الجميعُ كبارا وشجعانا.
خذ مثلا التصنيفات مثالا. أثرت شبكات التواصل في حالات دول عربية فيذكر المتداخلون مصطلح: ''الربيع العربي''، وتقف فتاةً جليّة المنطق هي مشاعل العيسى، وترفضه بتاتا من جذوره، وتطالب بأخلقة التغريدات والخوف من المحاسبة الربانية، وتُطالب بـ ''الربيع العَقَدي'' وقد استحسن الجميع التعبير التركيبي الذهني في الطرح حتى إن خالفوا مشاعل جذريا.. هي الحرية، هي التمسك بغريزتنا بحرية التعبير، وكما لاحظ الدكتور فهد السنيدي بتغريداتٍ متتابعة عن ظهور رأي قوي وشجاع وعادل لأخينا الحاذق مهنا الحبيل.
يبقى أن أقفل المقالَ وأقول: إن تغريداتِ ''التويتر''، إن استقبلناها بسعة صدرٍ وعقلٍ ومحبَّةٍ فيمكن التعامل معها كمصادر معلوماتٍ فتكون نعمة، ويُطفأ جمرُ النار. أو أن نستقبلها بصدر ضيق متبرم ولا نراها إلا سهاما تستهدفنا. فللأسف، قد تصيبُ يوماً تلك السهام!