اصنع وظيفتك
هذا اسم الحملة التي أطلقها معهد الأمير سلمان لريادة الأعمال في جامعة الملك سعود، وهي تستهدف تحويل تفكير الطلاب والطالبات من البحث عن وظيفة إلى توظيف المعارف والمهارات التي تلقوها أثناء دراستهم في إنشاء مشاريع ريادية ذات عائد اقتصادي واجتماعي. إن كثيرا من الشباب والشابات تربوا على أن يجدّوا ويجتهدوا في دراستهم وأن يختاروا أفضل التخصصات والكليات من أجل الظفر بوظيفة ذات أجر عال، وهذا منتهى غايتهم ومقصدهم من الدراسة. ويعزز ذلك انتهاج الأسلوب التقليدي في التدريس بحيث يتم الاعتماد على التلقين وبتفكير نمطي لا يساعد الطلاب على استكشاف قدراتهم الذهنية التحليلية وتنميتها. هذا الأسلوب التعليمي الجامد لا يتفق مع وقع المتغيرات المتسارع ولا يؤهل الطلاب لمواجهة التحديات الكبيرة التي تتطلب تفكيرا إبداعيا خارج الصندوق والنمط المعتاد. ويجعل هذا النمط التقليدي في التعليم الطلاب يبحثون عن الأمان الوظيفي والوظائف التي لا تتطلب جهدا عضليا وذهنيا. وإذا لم يدرب الطلاب على توظيف النظرية وتطبيقها في الواقع العملي كانت هناك فجوة بين ما يتعلمونه والفائدة المرجوة منه، ويؤدي ذلك إلى جفوة التعلم والاعتقاد أنه أمر غير ضروري لتأدية العمل، خاصة في ظل غياب المعايير المهنية في مكان العمل. إن أخطر ما نعلمه لطلابنا هو عدم التعلم واستكشاف ما حولهم والبحث عن حلول جديدة. هذه الرتابة والنمطية في التعليم وما تفضي إليه من جمود التفكير ورؤية العالم بطريقة واحدة تقلل من إسهام الشباب في عملية التنمية الوطنية وتختزل اهتماماتهم وطموحاتهم في الحصول على وظيفة مكتبية ليتركوا المجال الأوسع والأرحب للفرص الاقتصادية والدخول العالية في الأسواق للوافدين! لقد نشأت ثقافة السيد المحترم الذي يُخدم ولا يخدم، وهي من إفرازات الطفرات الاقتصادية التي جعلت كثيرين يحصلون على المال دون جهد يذكر، وأصبحت المباهاة والتفاخر في الماديات معيار التفاضل الاجتماعي وليس الجد والاجتهاد والتفكير الإبداعي واحترام الوقت والنظام. وفي ظل هذا المناخ الاجتماعي العام أصبح المواطن في جميع المواقع يرغب في الحصول على الكثير بأقل جهد. والمتأمل لما كان عليه المجتمع قبل عقود مضت يجد أن العمل شرف ينعت صاحبه بالصلاح، وكان الأجداد الأفذاذ يتكيفون مع بيئتهم القاسية بإبداع في مجال التجارة والزراعة والعمارة وغيرها، بل إنهم بادروا إلى تصدير منتجاتهم للبلدان المجاورة وركبوا البحر متجهين شرقا ليصلوا الهند البلد القارة ليكوّنوا إمبراطوريات تجارية ويثبتوا أنفسهم في ظل تنافس كبير.
لقد أصبح من الضروري إعادة ثقافة المجتمع والعودة للقيم الأصيلة التي بني عليها. والخطوة الأهم في هذا التوجه في تطوير التعليم، ويقع في جوهر العملية التعليمية المعلم، فالمعلمون هم عناصر التغيير، وإذا كان كذلك فلا بد من تدريبهم وتطوير قدراتهم في أساليب التعليم التي تجعلهم مسيرين وموجهين يدفعون الطلاب نحو الاستكشاف ويمنحونهم الفرصة في التعبير وإبداء الرأي واستثارة أفكارهم وتقديم مبادرات وابتكارات خلاقة. لكن هذا وحده لا يكفي، لكن يلزم أن يكون نظام التعليم دافعا نحو تعزيز هذا الأسلوب الابتكاري والمنفتح الذي يقود لبناء القدرات الذهنية والنفسية للطالب. إن تطبيق هذا الأسلوب من التعليم ليس بالأمر السهل فهو يتطلب قدرات خاصة وتحمل التحول من نمط التعليم الرتيب إلى أسلوب التعلم المتجدد التفاعلي وهو يحتاج إلى انضباط مهني تربوي عال وقناعة لدى المعلمين بجدواه والاستعداد للتخلي عن منطقة الراحة ووضع الاستكانة إلى حالة أكثر حركية وحيوية وخوض تجارب جديدة والخروج عن المعتاد. إن دور التعليم الأساسي (العام) في تنشئة الأجيال الشابة وغرس مفاهيم الريادة والمبادرة والجسارة مهم وواضح وجلي، وكيفما يكن التعليم العام يكن المجتمع. هذا لا يلغي أهمية التعليم العالي في تطوير مفاهيم الريادة والإبداع، لكنه يأتي متأخرا، ما يصعّب مهمة أعضاء هيئة التدريس، وربما نقل طلاب التعليم العام عدوى الأسلوب الرتيب إلى الجامعة لتتحول الجامعات إلى ثانويات تمارس النهج التعليمي ذاته في حشو ذهن الطالب والطالبة بالمعلومات دون ربطها بالواقع واستشعار فائدتها وتطبيقاتها في مجالات الحياة المتعددة. إنه أمر يدعو للقلق في مجتمع يواجه تحديات عظيمة تتزايد يوما بعد يوم وتتطلب أفكارا إبداعية تسهم في التنمية الاقتصادية مساهمة فاعلة حقيقية وليست شكلية. إن بناء الخبرة الوطنية في مجالات التصنيع والتجارة والتسويق أمر في غاية الأهمية إذا ما أردنا كمجتمع الانطلاق نحو مجتمع المعرفة ورفع مستوى التنافسية واللحاق بالعالم الأول. ويقع على عاتق القطاع الحكومي مسؤولية التوجه نحو تعزيز ريادة الأعمال في مجال التدريب والتعليم والتشريعات والدعم المالي. ولا شك أن الدولة تبذل بسخاء لكن لا بد من إعادة النظر في توزيع الإنفاق الحكومي بحيث تكون الأولوية لتشجيع المنشآت الريادية الصغيرة ضمن منظومة صناعية تكفل علاقة فاعلة بينها وبين الشركات المتوسطة والكبيرة. وربما كان تخصيص جزء من المشاريع الحكومية للمشاريع الصغيرة محفزا للشباب للدخول في مجال العمل الحر. أما فيما يتعلق بالتدريب والتأهيل فهناك كثير من معاهد ومراكز ريادة الأعمال المنتشرة في أنحاء متفرقة من السعودية، ومعهد الأمير سلمان لريادة الأعمال الذي يعتبر من أوائل تلك المعاهد ويعود الفضل ـــ بعد الله ـــ إلى برامجه المتميزة وخريجيه الذين أسهموا في إنشاء مراكز مماثلة في الجامعات وغيرها من المؤسسات. لذا لم يكن مستغربا أن يبادر المعهد في إطلاق حملة "اصنع وظيفتك" ليذكّر الطلاب والطالبات أن هناك خيارات أخرى أكثر دخلا وأنفع لمجتمعاتهم تتمثل في العمل الحر، وأنه ليس من صالحهم ولا صالح الوطن أن يكون همهم البحث عن وظيفة والاستكانة. حملة "اصنع وظيفتك" موجهة إلى الطلاب في المقام الأول، لكنها لنجاحها وتحويلها إلى أرض الواقع تتطلب إسهامات أعضاء هيئة التدريس وتعاون الجهات التمويلية والتشريعية. "اصنع وظيفتك" يستحق أن يكون شعارا واستراتيجية وطنية تتبناها الدولة وتسعى إلى تحقيقها بكل قوة والتزام.