الانتخابات الأسخن في تاريخ ماليزيا
تبدو الانتخابات التشريعية القادمة في ماليزيا المقرر إجراؤها في نيسان (أبريل) الجاري مختلفة عن كل سابقاتها، وربما ستكون الأسخن في تاريخ هذه البلاد. ذلك أن كلًّا من حزب أومنو الحاكم منذ استقلال البلاد في عام 1957 دون انقطاع، الذي قدم لماليزيا كل رؤساء حكوماتها بدءًا من الأول تنكو عبد الرحمن وانتهاء بالحالي نجيب رزاق، وائتلاف قوى المعارضة الذي يقوده نائب رئيس الحكومة الأسبق المثير للجدل أنور إبراهيم، المكون من ثلاثة أحزاب هي: ''حزب باس'' ذو التوجهات الإسلاموية، و''حزب داب'' أو العمل الديمقراطي'' الممثل للماليزيين من أصل صيني، و''حزب العدالة الشعبية'' أو ''باكاتان رقيات'' الذي يتزعمه أنور إبراهيم يبذلان كل ما في وسعهما للظفر بنتائج انتخابات هذا العام، بما في ذلك استخدام وسائل الاستقواء بالخارج، ودغدغة مشاعر المقترعين بالوعود الوردية، وتبادل الاتهامات الصاعقة، واستثارة الحس القومي.
فمثلًا لجأت الحكومة أخيرًا إلى سلسلة غير مسبوقة من الإجراءات لدحض اتهامات المعارضة، والظهور أمام الرأي العام العالمي بمظهر الحريص على إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وذلك من خلال الاستجابة لبعض مطالب المعارضة مثل تجميد نصوص في قانون الطوارئ كانت تتيح للسلطات الأمنية اعتقال أصحاب الرأي والقلم وسجنهم دون محاكمة لآجال طويلة، وإلغاء القانون الخاص بإجبار الصحف على تجديد تراخيصها كل عام، ومنح حريات أوسع في مجال الإعلام الإلكتروني. لكن المعارضة المتأثرة في خطابها وسلوكياتها وحراكها بما جرى في بلدان ما يسمى بـ ''الربيع العربي''، وصفت هذه الخطوات بـ ''الشكلية'' التي لا تلبي كل الطموحات، ولا تحقق التغيير المنشود، ولا تجتث الفساد المنتشر في هياكل الدولة بسبب الهيمنة الطويلة لحزب ''أومنو'' على السلطة، لترد الحكومة بأن على قوى المعارضة أن تبدي لها الشكر والامتنان بدلًا من سَوْقِ الاتهامات، مضيفة أن مستقبل ماليزيا بات اليوم على المحك، بمعنى إما نعم للاستمرارية بغية المضي قدمًا في الاستقرار والرخاء والازدهار، وإما الفوضى والتقهقر والضياع على نحو ما حَلَّ بمصر وتونس وغيرهما.
ومن الأمور الأخرى التي لجأت إليها الحكومة لضمان تحقيق فوز مؤزر، وعدم تكرار ما حدث في انتخابات عام 2008 حينما خسر الحزب الحاكم للمرة الأولى منذ الاستقلال أغلبية ثلث المقاعد البرلمانية، معطوفًا على خسارته لحكم خمس ولايات من أصل الولايات الـ 13 المكونة للاتحاد الماليزي، قيامها بالمراهنة على روابط تجارية واستثمارية واقتصادية أشمل وأقوى مع القطب الصيني، في مقابل مراهنة قوى المعارضة على القطب الأمريكي. وهذا – أي إقحام العامل الأجنبي في المشهد الانتخابي الداخلي – أمر جديد لم تعرفه ماليزيا بهذه الصورة الواضحة من قبل، ويعطي مؤشرًا على مدى تنافس بكين وواشنطن على النفوذ في ماليزيا. والمعروف أن ماليزيا كانت أول دولة غير شيوعية في جنوب شرق آسيا تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع بكين، وذلك في عام 1974، في عهد رئيس الحكومة الأسبق تون عبد الرزاق والد رئيس الوزراء الحالي، لتصبح الصين خلال أقل من أربعة عقود الشريك التجاري الأهم لماليزيا، والأكبر ضمن منظومة آسيان. وتشتمل علاقات البلدين المتنامية على مبادلات تجارية بلغت قيمتها في عام 2011 نحو 90 مليار دولار، ومشاريع مشتركة في تصنيع الفولاذ والألمنيوم واستخلاص زيت النخيل وغيرها من الاستثمارات الصينية التي توفر الآلاف من فرص العمل، وتجد صدًى طيبًا لدى الماليزيين عمومًا وأولئك المتحدرين من العرق الصيني خصوصًا.
في مقابل هذا التوجه الحكومي نحو بكين، يراهن زعيم المعارضة أنور إبراهيم على واشنطن، التي باتت في عهد أوباما الثاني أكثر تركيزًا على منطقة جنوب شرق آسيا، خوفًا من تنامي النفوذ الصيني فيها على حساب مصالحها. والمعروف أن واشنطن جندت أجهزتها الإعلامية ومنظماتها الحقوقية ومؤسساتها العاملة تحت لافتة ''نشر الديمقراطية في العالم الثالث'' لمؤازرة إبراهيم في أثناء صدامه مع رئيس الحكومة الأسبق مهاتير محمد ومحاكمة الأخير له بتهمة الشذوذ الجنسي.
يجري هذا في الوقت الذي لا يحبذ فيه حلفاء إبراهيم من حزبي ''باس'' و''داب'' تودده وتقربه من واشنطن. وبكلام آخر، هناك تصدع خفي في تحالف المعارضة، ومؤشرات حول تباين رؤى وأفكار أطرافها - وإن اتفقت على انتزاع السلطة من حزب أومنو – الأمر الذي قد يصب في صالح الحكومة. غير أن التصدع ليس وقفًا على قوى المعارضة فقط، فالحزب الحاكم نفسه يشكو أيضًا من ظهور بعض الأصوات المتمردة القوية في صفوفه. فأحد أهم حلفائه وهو إبراهيم علي زعيم تنظيم بيركاسا كثيرًا ما يلجأ إلى انتقاد سياسات الحزب الحاكم، ولا سيما تلك الخاصة بانحيازه إلى إثنية الملايو الغالبة على حسابات الإثنيات الهندية والصينية والعربية، بل يشكك في توجهاته الإسلامية، متخذًا من سماح الحكومة بفتح الحانات وكازينوهات الميسر وتنشيط سياحة البلاجات والمنتجعات الرومانسية كدليل. وهذه تقريبًا الانتقادات نفسها التي يوجهها أنور إبراهيم للحكومة، مهددًا بأنه سيقوم، بمجرد فوز المعارضة في الانتخابات، بتصحيح الأمور وفقًا لمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، الأمر الذي قرع أجراس الإنذار داخل أروقة حليفه ''حزب داب'' الممثل لذوي الأصول الصينية البوذيين، وجعل الأخيرين يتوجسون من مستقبل اجتماعي وحقوقي أسود ينتظرهم.
طبقًا لمراقبين كُثُر فإنه على الرغم من التنافس الحاد بين الحكومة والمعارضة، ومحاولة كل طرف تشويه صورة الطرف الآخر بمختلف الوسائل، وتداخل القضايا الاقتصادية مع القضايا الاجتماعية، وانعكاسات التجاذبات الصينية – الأمريكية على المشهد الانتخابي، فإن الحكومة والحزب الحاكم في موقف أفضل من المعارضة، بسبب الإنجازات المشهودة التي تحققت على أيديهما للماليزيين بصفة عامة، خصوصًا مستويات المعيشة العالية، والبنية التحتية الجيدة، والخدمات الراقية، وتنمية الأرياف الحاضنة لثلثي عدد المقترعين، ناهيك عن أمور أخرى سيستخدمانها لصالحهما في الحملات الانتخابية مثل انخفاض معدلات التضخم، وتحقيق معدلات نمو بواقع 5 في المائة سنويًّا، وتصنيف البنك الدولي لماليزيا في المركز 12 كأفضل مكان للأعمال على مستوى العالم (متفوقة بذلك على السويد صاحبة المركز 13، وتايوان صاحبة المركز 16، وألمانيا صاحبة المركز 20)، دعك من الأسباب الأخرى التي تصب في صالحهما مثل تصدع جبهة المعارضة ومخاوف البعض من أجنداتها الراديكالية والدعم الصيني القوي، خصوصا أن كوالالمبور – على عكس شريكاتها في آسيان – لا تتخذ موقفًا متشددًا من بكين حيال السيادة على مكامن النفط والغاز المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.