البصمة الوراثية والبصمة النفسية
يتحدث علماء الوراثة عن الاختلافات التي توجد بين الناس في البصمة الوراثية، حتى مع هذه المليارات من البشر، إذ لا يوجد اثنان يتشابهان في بصمتيهما، حتى من ينحدرون من أصول واحدة، وجنس واحد لا يمكن أن يوجد هذا التشابه، بل إن الإخوان يختلفون في هذا الشأن، فسبحان من خلق وأبدع، وأوجد مثل هذه الفروق. تأملت في هذا الشأن وتساءلت هل يوجد مثل هذا الاختلاف ما يشابهه في التركيبة النفسية، أي في طريقة الإدراك، والمشاعر، وطريقة التحليل، والرؤية؟!
عند التأمل في الموضوع، وباستعراض النماذج البشرية التي يعرفها الفرد، وسبق له التعامل معها سواء في محيط العمل، أو في محيط الأسرة، أو الأصدقاء، أو من يصادفهم الفرد في الشارع، والأسواق يجد المرء اختلافاً، بل اختلافات واضحة، وبينة، فحدث، أو موقف واحد يدركه اثنان بطريقة مختلفة، إذ إن واحداً قد يرى في الحدث، أو الموقف أمراً إيجابياً، بينما الآخر لا يرى هذا الشيء، بل يرى العكس، حتى أنه يرى الجانب السلبي في الموضوع، وليت الأمر يقتصر على إدراك الأمر السلبي، بل تجده يضخم الأمر، وتكون ردود فعله حادة سواء في مشاعره أو سلوكه وتصرفاته، حتى أن من يراقب الموقف يتعجب من مثل هذا التصرف الذي لا يتناسب مع حجم الموقف أو الحدث.
كلما أفكر في هذا الموضوع أتذكر قول الله تعالى ''وفي أنفسكم أفلا تبصرون'' دعوة من الله للاستبصار، والتأمل، والوعي بذات الفرد، وتركيبها العجيب الذي كلما تأملنا فيه وعرفناه على صورته الحقيقية، زاد ذلك من فهمنا لأنفسنا أولاً، وفهمنا للآخرين، ومن ثم حسن التصرف، أو هكذا ما يجب أن يكون، وما من شك أن الإحاطة التامة بالنفس البشرية، والإلمام بتفاصيلها بصورة مطلقة لن يتم حتى مع البحوث والدراسات والمعارف في هذا المجال، لكن هذا لا يمنع مزيدا من الوعي للوصول إلى ما يمكن الوصول إليه.
النفس البشرية تقوم على ثلاث بُنى أساسية، بنية العقل، ومن خلالها وبها يتم إدراك المثيرات الخارجية، وتحليلها، وتفسيرها بغض النظر عن صحة التفسير من عدمها، أما البنية الثانية فهي البناء الوجداني، الذي يمثل جانب المشاعر والعواطف والاتجاهات والميول والرغبات، وفي هذا المجال يظهر الفرد مشاعره نحو الأمور والأحداث والأفراد والمعتقدات، حيث يعبر عن فرحه وسروره وقلقه وخوفه وتفاؤله وتشاؤمه وحزنه وغيرته، وما إلى ذلك.
أما البنية الثالثة فهي السلوك والفعل الذي يقدم عليه الفرد كأثر لنوع الإدراك، ونوع المشاعر التي تعتمل داخل ذاته، فقد يهرب من المكان إن كان إدراكه للموقف يوحي له بذلك، أو قد يعطف ويتصدق على فرد من الأفراد، أو قد يضرب ويشتم، أو قد ينسحب من الموقف احتجاجاً، واعتراضاً على أمر من الأمور.
البصمة النفسية تظهر على الفرد في منزله، وفي إدارته لعمله، وتعامله مع الآخرين حتى أن من يعملون مع الفرد يرسمون له صورة ناتجة عن وجود طريقة ثابتة مستقرة لديه، ويمارسها بتكرار، لذا نجد البعض يصنف بالمتسيب والفوضوي، وآخر يوصف بالمنظم، وثالث يصنف بالعادل، وآخر بالمنجز.. وهكذا. إن البصمة النفسية قد يكون لها امتداد في الأسرة، حيث يشبه الابن أباه في بعض الخصائص النفسية، في حين يختلف عنه في خصائص أخرى، لذا نجد الشجاعة قد تبرز على فرد وأبنائه من بعده، وكذلك الكرم وغيرها من الصفات، لكن هذا ليس دائماً إذ قد نجد العكس، فالأب قد يكون شجاعاً لكن أبناءه ليسوا كذلك، ولذا يقول المثل الشعبي ''النار ما تورث إلا الرماد''.