رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


إن لم تكن ديمقراطياً .. فماذا تكون؟

يسأل عامر المضف من الكويت: هل الديمقراطية، تصلح لنا؟ أهيَ الحل؟ إن كانت لا تصلح، أنقبل بالتحكم الفردي؟
السؤال صعب، ومعقد، ويتداخل به كثير من العلوم الإنسانية، ولا يمكن أن يكون إجابةً، إنما رأي من دفـْقِ آراء، قد يوافقني عليه البعض، وقد يجد البعضُ - برأيهم - أسباباً قوية لمعارضته. أرجو أن نتفق أنه رأيٌ أكثر من كونه جواباً قاطعاً للسؤال.
لأوضِّح، أستدعي قولا للكاتب الإنجليزي البارع ''إلدوس هكسلي''، يقول في كتابه النفيس: ''عالمٌ جديدٌ شجاع Brave New World'': ''الديمقراطية التي تسعى لحربٍ تخوضها عليها أن تتوقف أن تكون ديمقراطية، لا يمكن لأي دولةٍ أن تخوض حرباً دون شخصٍ آمرٍ لا يُرَدُّ له قرار'' واخترتُ تعبير ''شخص آمر''، تخفيفاً من كلمة صاحبنا هكسلي ''طاغية Tyrant''. وأراه رأياً واقعياً.
قد يأتي من يقول: ''طيّب يا أخي، خاضتْ دولُ الحلفاءِ الحربَ ضد ألمانيا وهي ديمقراطية؟'' وأقول: صحيحٌ وغير صحيح. لأن الدستورَ الأمريكي والميثاق البريطاني يجعل كل صلاحية الحرب بيد الرئيس من قرار الحرب، إلى إدارة الحرب، إلى إعلان نهايتها، فيكون آمراً وحيداً، وبريطانيا تعطي ذات الصلاحية للسلطة التنفيذية في الأمة، رئيس الوزراء. بمعنى أن الديمقراطية ليست مناسبةً بصفةٍ دائمةٍ ولا مطلقة، هي مسألةٌ نسبية تخضع للظروف الوضعية والمكانية والموضوعية.
السيد ''هكسلي'' البريطاني الصميم، والذي قضى بقية حياته في ''لوس أنجلوس'' الأمريكية، أكثر دولتين في العالم يعرفان ويحترمان ويطبقان ديمقراطية أثينا الإغريقية - بمفهومها الأثيني بحكم الشعبِ للدولة - ومع ذلك تجده يقول الديمقراطية لا تصلح لكل ظرف، وأرجو أن تعلم أن ''هكسلي اُعتُبِر من عباقرة القرن العشرين. وأزيدك من الشعر بيتاً، فإن الكتابَ ''عالمٌ جديدٌ شجاع'' يدعو للفاتحين الإنسانيين الأفراد وأنهم مَن حوّلوا مسارات التاريخ، وليست الديمقراطية التي توزَّع بها العبقريةُ والإبداع برأيٍ مشاع.
في الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي انفجرت في أمريكا 1929 كانت أصواتٌ تطلب أن تكون القيادة ''آمرة انفرادية''، غير أن الرئيس ''هربرت هوفر'' - الجمهوري - لم يرضخ لطلبات هكسلي وآخرين، وفي عام 1933 فاز الرئيس ''فرانكلين روزفلت'' - الديمقراطي - بمنصب الرئاسة بعين إعصار الأزمة التي حطمت عظامَ الاقتصاد الأمريكي، وجعل كل حبال القيادة لديه لإخراج عربة الاقتصاد الأمريكي من مستنقع الوحل المتحرك، وشكّل إدارة المطبخ الشهيرة - سبق أن تحدثت عنها في مقال - حين صار المجتمعون يتخذون مطبخ السيدة روزفلت مقراً لهم، وتعمل لهم الساندويتشات- عقولٌ اختارهم بنفسه بلا استمزاج رأي أي مؤسسةٍ دستورية كالكونجرس، وأعطى نفسَه صلاحياتِ حربٍ آمرة، وخرج للأمة الأمريكية بما سُمِّيتْ حينها ''الصفقة الجديدة'' غيّرت أركان الاقتصاد التقليدي السوقي الأمريكي. انتهت الأزمة، وعاد الحكمُ الديمقراطي كما كان، وكأنه لم يُمَس!
أظنك فهمت قصدي الآن حبيبنا عامر. ويمكن لا؟ طيب، أرجو أن تطالع حال أكثر من دولة ديمقراطية، سواء العريقة أو التي طفرت بعد حكم ديكتاتوري. يجب عليّ أن أقول لك إن أسوأ حكم في العالم هو الحكم الديكتاتوري، حكم الفرد الآمر المتسلط الذي لا يأبه إلا لنفسِهِ لا لشعبِه ولا لأمّته، وعندما تحدثنا عن السلطة الآمرة آنفاً بالحرب أو الظروف الأخرى، فلأنها تحتاج إلى عقل حكيم مخلص قوي مناضل مضحياً بوقته وصحته في سبيل أن يخرج أمّتَه من مآزقها ويضعها على الدرب الصحيح. أعود أقول: طالع دولاً ديمقراطية، كيف يعم بها الفوضى والتخبط. الديمقراطية الروسية بعد الحكم السوفياتي الشيوعي المطلق انظر ما آلت إليه اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً. انظر لإيطاليا التي تتخبط وتخلع حكوماتها كما تغيّر ذات الدلال فساتينها، فضربت الرقم القياسي في تبديل الحكومات في تاريخ الديمقراطية، غير العفن والفساد وتحكم العائلات الكبرى اقتصادياً أو مافياوزياً - من المافيا. انظر لليونان التي اخترعت حاضرتُها التاريخية ''أثينا'' الديمقراطية. وانظر لحالنا العربي في مسألة الانتخابات، نطالب بالديمقراطية ثم نتقاتل بيننا لما تجيء.. ولا يعجبنا العجب!
الخلاصة: الديمقراطية لا يجب الوقوف ضدها بلا سبب. ولكني أقف بشدة مع الحريّة.. إن الحاكم الأوحد الطاغي لا يقبل الحرية، بل تثير حساسيته، كما أثارت مسدّس ''غوبل'' النازي. القائد الحرّ العظيم هو الذي يؤمن أن الحرية تأتي في باقة واحدة مع الهواء والطعام والأمن والعلم. وأقف مع الديمقراطية التي تأتي بمراحل بالتثقيف الفردي والجماعي لسنوات، أي أن مفهوم الديمقراطية لا يبدأ بنا، بل من عند الطفل الذي يضع خطوته الأولى بصفِّه المدرسي.
هذا.. والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي