العلماء لا زالوا يشعرون بالغربة والخوف
يقول الرواة:
يقضي ثمانية وعشرين شهرا كاملة الإمام أحمد بن حنبل ـــ رحمه الله تعالى ــــ، سجينا بقرار مباشر من المعتصم؛ لأنه رفض أن يوافقه على القول بخلق القرآن! وضربه بسياط غليظة أفضت إلى مرضه الذي مات به.
ــــ والإمام أبو حنيفة النعمان، يسجنه المنصور الدوانيقي ويضيق عليه في السجن أشد التضييق، لكونه رفض ولاية القضاء، وجاء في بعض الأخبار أنه توفاه الله ــــ رحمه الله تعالى ــــ سجينا في أرذل سجون بغداد.
ــــ ويروي الرواة أن الحجاج بن يوسف الثقفي لم يجد حرجا في قتل الفقيه العالم سعيد بن جبير، وقال الرواة إنه لم يتورع عن التمثيل بجثته أيضا.
ــــ أبو حيان التوحيدي.. بين قولين في محنته، قول إنه نفى نفسه، وأحرق كتبه كاملة لم يستثن منها كتابا، إلا كتاب الإمتاع والمؤانسة قيل إنه لم يجده حين حرق كتبه، والقول الثاني إن حرق كتبه قد فرضت عليه لزوما، كما فرض عليه الخروج من بغداد على ألا يعود إليها أبدا، وكان هذا قرار الوزير (المهلبي)؛ خشية توليه منصبا عاما. وكان له ما أراد، وكان للتوحيدي أن يواجه الفقر والنفي والموت مرضا دون رحمة من أحد.
ـــ لم يكن الحال أحسن مآلا عند صاحب البصيرة، فاقد البصر أبو العلاء المعري.. حين كان صغار أبناء الحكام يجعلون منه مادة للسخرية في إبعاد الأطباق عن يديه، وإسالة العسل على لحيته.. ووضع الأشياء أمامه ليصطدم بها! هذه الكرامة المهدورة، خرج بها أبو العلاء المعري إلى مقر مولده ــــ معرة النعمان ــــ وطوى نفسه على يأس مرير من الحياة، وخوف ظاهر من كل من حوله، وقنوط تام من الناس، بلغ غايته بالنظر إلى وجوده في الحياة كانت بسبب جناية من أبيه.. رغم أنه لم يجن على أحد.. بأن يكون هو سببا في إيجاده للدنيا، وخروجه إليها بالتزاوج.. لذا لم يتزوج.. ولم يخرج من مرارة معاناته ولو ليوم واحد حتى قضى للرفيق الأعلى.
- أما العالم والفقيه الحسن بن الهيثم.. فقد كانت قصته تمثل فاجعة حقيقية، وفضيحة كبرى لجيله وزمانه! ففي غفلة من الحكمة، والتقدير من أهل زمانه.. وجد هذا العالم الجليل نفسه على باب ــــ الجامع الأزهر ــــ ينسخ كتبا، كناسخ كتب فقير! بعد أن غضب عليه الحاكم بأمر الله وفرض عليه عقوبة حرمانه من التكسب بما يليق بعلمه وبمكانته.. عقوبة كان يريد منها الحاكم بأمر الله أن يذله، وأن يجعله يلتقط بقايا الطعام من على باب قصره، حيث كان الفقراء ينتظرون في كل ليلة تلك الوليمة من بقاياه كما تفعل القطط، إلا أن الحسن بن الهيثم قرر أن يقتات بالحبر وبالورق وإن شح المعطي، وضمر البصر.
ــــ أجد نفسي في حرج بالغ أمام أسرة أحد كبار الشعراء المعاصرين في العراق حين أروي سبب وفاته، حيث كان لا يملك ثمن علاجه في المستشفى الذي أوى إليه بما تبقى فيه من قوة، وبما تبقى فيه من حرارة الحياة، وكما هي سائر المستشفيات الخاصة.. الرحمة هناك مرتفعة ــــ إلا ما رحم الله ــــ ولا يمكن أن تتنزل من غير الله على عباده! وهكذا كان.
فقد تنزلت عليه ــــ رحمة الله ــــ، وقبضت روحه، وهو ملقى على رصيف المستشفى في زمهرير قارص، ظل يستجيش عليه مرضه والبرد الشديد، وحرارته المرتفعة. وهو يردد: كأس ماء.. ــــ لو شربة ماي ــــ باللهجة العراقية المعروفة! حتى قضى على ظمأ، وشدة يباس ــــ رحمه الله ـــ ولو تتبعت وإياكم القصص عبر التاريخ لكان كتابا تطول فصوله وأبوابه في محنة العلماء عبر التاريخ وفي الواقع المعاصر.
في كل زمان غالبا كان العالم طريدة السلطان! يناصره الناس من حوله، يخرج منهم ويحتمي بهم، حتى تداعت الأمور في هذا الزمان وأصبح العالم، وحامل المعرفة طريدة السلطان، وطريدة المجتمع من حوله، إن خالفهما، وإن جهر بما لا تشتهيه نفوسهما، ولم تبلغ إليه بعد إدراك عقولهما المستغلقين عن فهم المآل، وإدراك العلة الغائبة في الظاهرة الحاضرة.
بات المثقف والعالم والكاتب في ارتهان للتعبير عما يعتقده الناس، لا ما يعتقده هو. أن يكون لسانا يجهر بما يحب مجتمعه سماعه، لا بما يجب عليه أن يسمعه، ولو كان له كارها. بات العالم والفقيه أضعف كثيرا في عصر "الهشتاق" أن ينابذ الفكرة العامة، أو يخالف المعتقد الشائع، أو يناقش الفهم المتسالم عليه في قراءة الوقائع والأحداث، والحكم عليها. وكأنه شاعر قادم من شظف إملاق البادية، ليس له من لسان غير التعبير عن رغبات قبيلته، وتمجيدها بما ليس فيها، ويعظمها بما لا تستحق. والملتفون حوله في خيمة من شعر الماشية،
ذات العقل، ذات فكر الطرد من القبيلة، والطرد من الرضا، والحرمان من التقدير.. بهذا الذي يسمى هشتاقات، حيث يضيق المجتمع بالرأي المختلف!
في زمن يفترض فيه أن الحرية مكفولة للجميع للمتفق وللمختلف، للرأي المؤيد والرأي المعارض. ثمة سبب واحد لهما معا، هو حرية التفكير وحرية الاعتقاد. المكفولة للجميع.
لا نزال نتردى في البعد عن التعددية الفكرية، لا نزال نتباعد عن الوفاق المتنوع، ولا يزال العلماء والمفكرون والفقهاء يشعرون بالغربة والخوف لغياب الحس النقدي المتوازن والعاقل والرشيد، بما ينبئ بتأخر ولادة المجتمع الرشيد حتى تزول موانع تكوينه ووجوده.