رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


يا باربي .. يا ميكي

''.. شكرا لك أيها الضابط الإنسان منعتني من ذكر اسمك''.

كنت في جلسة، حين رأيت رجلا وقورا ينضح بالطيبة الصارمة، وابتسامته كإعلانات الكولجيت.. تقدم إلي بأدب رغم رقي سمته، وبتواضع أخذ بيدي وقال: ممكن دقايق.
مال إلي وقال سأحكي لك تجربة وسبق أن قرأت شيئا مماثلا وأنا في أمريكا، ثم طبقتها هنا بعد سنوات ونجحَتْ. وأود أن تنبه بمقال لك سلطاتِ القبض ومراكز الشُرَط والتوقيف عن تجربتي، بشرط ألا تذكر اسمي، لا لشيء إلا لتكون القصة نابعة من حقيقة، وليس كما ''قد'' تبدو تطلبا مظهريا. أعطيته وعدي. بدأ يحكي:
''كنت مسؤولا عن مركز كبير للشرطة في إحدى كبريات مدن البلاد، وكانت عندنا مشكلة أقلقتنا في إحدى المدارس الثانوية، وأزعجت الأهالي في الحارة، وأهالي التلاميذ، وطاقم التدريس والإدارة. مجموعة من الصبية المتنمرين يثيرون دوما شغبا في المدرسة وخارج أسوارها، ويتباهون بالتدخين والاستعراض بحركات بسياراتهم أمام أسوار المدرسة، وصدور أثوابهم مفتوحة عمدا إظهارا كما يعتقدون للبطولة والرجولة، مع إزعاجاتٍ متتاليةٍ بالدخول في مشاجراتٍ يتسببون فيها تصل أحيانا إلى إشهار سكاكين صغيرة من جيوبهم، يحطمون سيارات المدرسين، ويتلفظون ويهرِّجون عليهم في الفصول.. وهم في حالة انتشاء لشهرتهم التي راجت بين الأولاد في المدرسة، يمشون نافخي الصدور ككباش الجبال بين أندادهم، مع التهكم على هذا وخطف ''فسحة'' ذاك ودفع من في طريقهم.
في يوم حدث شجارٌ كبير، بدأوه من سبب سخيف له علاقة بالانتماء القبَلي، وما هو إلا تفريغ لطاقة الهيمنة والتأسد التي تتفجر في عروق أعصابهم .. وحتى أعطيهم درسا، منعتهم من الخروج لأهاليهم، ووضعتهم ليلة في التوقيف، وفوجئت في الصباح والجنود يخرجونهم بأنهم يتمايلون تيها، ويملأ المكان صراخُهم وضحكاتُهم .. نعم، لقد أضاف لهم التوقيف إحساسا أكبر بالرجولة والبطولة، فصاروا أسوأ مما خرجوا عليه. في المرة الثانية هشّموا سيارة أستاذٍ لهم، فدفع أولياءُ أمورهِم تعويضا مجزيا للأستاذ الذي كاد أن يتنازل، إلا أني أصررت أن يُعاقَب الأولادُ المشاغبون فلا يجوز تركهم بلا عقاب، ويتساهلون الأمرَ فيمضون أكثر في غيّهم وعدوانيتهم. قررت أن أوقفهم هذه المرة لمدة ليلتين، وقتّرت عليهم في الطعام، بالكاد يشبعون أو يروون. وعندما أخرِجوا تكرر ذات السيناريو من شعور طاغ بالمرجلة والفتوّة وإحساسٍ مخدَّر بالبطولة. طبعا، عادوا أسوأ مما كانوا عليه في المرتين السابقتين.
ثم خطرت لي فكرة..
هذه المرة تعدوا على أبِ أسرةٍ لأنه منعهم من سد باب كراجه بسياراتهم، فضربوه ضربا مبرحا حتى نُقل بإسعاف للمستشفى، وزاره ولاة الأمور وتنازل الرجلُ الطيب. على أنني لم أتنازل، وأحضرتهم للتوقيف للمرة الثالثة. هذه المرة كنت قد اعددت نفسي لتأديبهم فعلا، ليس بعقاب بدَني، ولا بسجن أطول فيبدو لو سجنتهم نصف قرن لما اهتموا.. فاجأتهم بغرفة توقيف مُلِئَت بألعاب الأطفال الصغار، ورسوماتٍ معلقة لأطفال صغار أشقياء - ولكن شقاوة بريئة - ثم فاجأتهم بشيءٍ آخر، صرت أعطيهم أكلا في علب الأطفال وأرسل لهم العصير والماء والحليب بالرّضاعات .. وصرت أجلب زمرا من التلاميذ ليروهم وهم يتقلبون بين الألعاب ومخدات وفرشات الرسومات الكرتونية للأطفال الصغار وتلفزيون معلق بالسقف لا يطولونه يعرض أفلاما كرتونية خاصة بالأطفال، غير الرضاعات صحون الأطفال وعلب أكل الأطفال المتناثرة حولهم، والتلاميذ يغرقون من الضحك فأسموهم باربي وميكي .. وهكذا.
خرجوا صباح اليوم الثالث، والجند يضحكون ينادونهم بما أسماهم به زملاؤهم باربي (اسم لعبة أنثى شهيرة) وميكي وبلوتو.. وفي المدرسة، صاروا يتجنبون الأولاد الذين لم يعودوا يعرفونهم إلا بالأسماء الجديدة.
ومن المدرسة جاءنا تقرير بأنهم تغيروا للأفضل.. والذي أعرفه أنا أنه لم يأتِ أحدٌ أبدا يشتكي منهم من جديد.
* العبرة: عندما لا تستطيع أن تحل معضلةً ما بالطرق الاعتيادية والبديهية، فكر في أن تبتكر حلولاً أخرى ربما عكس تفكيرك الحالي. إن ''طيران ريان إير'' رأوا المنافسين يتباهون بخدماتهم، وأخذوا العكس: ''لا خدمات مهمة .. أسعارٌ لم يحلم بها أحد''، فصارت أنجح أسطول طائرات في أوروبا. وتخاذلتُ مرة لما أقنعتني لجنة النقل في ''الشورى'' بالتنازل عن توصية أطلب فيها شعارا لخطوطنا السعودية، وبطريقة التفكير المقابل: ''نحن لا ندخن.. ولا نشرب!''. لأن هناك قطاعات ركاب في العالم يرغبون في هذا النوع، فنحتكرهم قبل الآخرين. ولكني لم أكن بنباهة صديقي الضابط!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي