رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الأمم ومفهوم الثورات (2 من 2)

في المقال السابق تحدثت عن مفهوم الثورة على نحو ما يفكر به الناس، وهو العمل نحو تغير نظام الحكم من خلال تغيير نظام الطبقات، وشددت في نهاية مقالي السابق على أن الانهيار الحتمي لنظام الطبقات بعد الثورة يتسبب في عاصفة من الفوضى، وقد تحتاج الأمم إلى بعض الدكتاتورية لحل قضاياها. قد يبدو هذا التنظير ماركسيا بعض الشيء، وهناك مادية في التفسير، لكن التجارب الدولية أثبتت صدق هذا التنظير (إلى حد ما)، فلقد احتاجت الدول التي "لم" تمر بفعل ثوري مثل سنغافورة وماليزيا إلى بعض العمل الدكتاتوري من أجل تنمية المجتمع وإصلاحه ونشر ثقافة اجتماعية عادلة، فبعد أن تخلت عنها الدول الاستعمارية وتركتها في فوضى شعبية عارمة تشبه الفوضى التي تصيب الأمم بعد انهيار أنظمة الحكم، ومع تنوع الثقافات هناك، اضطربت البلاد وكادت حرب أهلية تطرق الأبواب لولا بعض الفعل الدكتاتوري الإصلاحي.
إن ما يصيب المجتمع بعد الثورة حالة من الصدمة الثقافية، وهذا الحالة تنشأ عندما تعمل الطبقة المهيمنة على عزل ذاتها من خلال ثقافة ومنهج خاص بها، كما تعمل الطبقة المطحونة على اكتشاف ذاتها من خلال نزعتها لتبني ثقافات مضادة حتى لو كانت هشة غير منتجة، لكن دورها الرئيس هو حقن الطبقة المطحونة بحقد الطبقة المهيمنة وثقافتها ورموزها. تحدث الصدمة الثقافية عندما تنهار الطبقات ومعها تنحل المذاهب الثقافية التي لم يكن لها جوهر حقيقي فاعل، بل بنيت فقط لتمييز الطبقات، فيبقى المجتمع في حالة فراغ ثقافي خطيرة جدا. ليس المقصود من ذلك الفراغ عدم وجود الفعل الثقافي، بل الفراغ في القيادة الثقافية للمجتمع، أو على الأقل عند شريحة واسعة منه، وهذه لا تقل خطورة عن الفراغ السياسي إن لم تكن أخطر.
إن الفوضى التي تصيب الأمم بعد الثورات ناتجة أساسا من غياب ثقافة سائدة أصيلة تقود المجتمع نحو تعريفات واضحة لمعنى الحكم والحاكمية، ودور كل أفراد المجتمع فيه. تتصارع الثقافات الهشة الموجودة من أجل فرض وجهة نظرها، وبقدر طول مدة الصراع الثقافي تمتد محنة المجتمع، لذا يبقى السؤال الجوهري: هل الفوضى بعد الثورات حتمية؟
لقد أجبت عن هذا التساؤل جزئيا من خلال المقال السابق، فالتغيير بالثورة يأتي بسبب خلل سابق له، هو فساد الحكومات من خلال تحيزها للطبقة مهيمنة عليها، ومن ثم سن القوانين التي تتناسب مع مصالح تلك الطبقة وما يعزز احتكارها بينما تبقى طبقة مطحونة تتسع كل يوم بسبب السحق المستمر للمجتمع، تتبنى الطبقة المهيمنة ثقافة حاكمة تنتج لها فلسفة أخلاقية وقانونية تبرر كل ذلك التحيز والفعل الطبقي البغيض. وطالما لم تنشأ الطبقات والثقافات العنصرية فالمجتمعات في أمان، لكن إذا نشأت الطبقات وللنجاة من الثورة وما تجلبه من دمار لا بد من ثورة ثقافية تسبق الثورة الطبقية. فالثورات الثقافية هي الوحيدة التي تستطيع جر المجتمع إلى طريق آمن نحو الإصلاحات دونما تورط في الفوضى العارمة. إن الثورة الثقافية تعمل كرافعة اجتماعية عملاقة تقود إلى كسر حدود الطبقات وصهر المجتمع بجميع مكوناته في مفاهيم مشتركة وتعيد تقييم القوانين والتشريعات وفق منهج جديد يخدم المجتمع بأسره وليس فئة دون أخرى. بحدوث الثورة الثقافية تنهار الحدود بين الطبقات وتنتهي معها التهديدات الثورية الفوضوية، وهذا ما عمل به النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - قبل أكثر من 1400 عام، ثورة ثقافية شاملة عادلة أزالت كل الطبقات الموجودة في المجتمع دونما الحاجة إلى ثورة فوضوية عمياء .. لكن كيف تنشأ الثورة الثقافية؟
لا تبدأ الثورة الثقافية من العدم، بل هي نتاج مراحل عدة من الحوار الثقافي والجدال والصراع في أحيان متطرفة. فعندما تهيمن ثقافة ما على المجتمع فالمسار الصحيح للتعامل معها هو البدء من نقدها بفاعلية ومنهجية، ومع النقد المستمر تستفز الثقافة السائدة أتباعها من أجل خلق إجابات عن الأسئلة المثارة عليها، وهنا تختبر الثقافة ذاتها ويختبرها أتباعها ويستمر التعايش معها طالما هي قادرة على خلق الإجابات، لكن في مرحلة معينة (وبحسب العمق الحقيقي للثقافة ومريديها) تكثر وتتراكم الأخطاء. فإذا بقي الخصوم في مدارات النقد فقط دون خلق ثقافة شاملة جديدة قادرة على الإجابة الكاملة عن جميع ما أجابت عنه الثقافة السائدة والإجابة عن كل ما فشلت عنه، فإن النزاع الثقافي سيتحول إلى نزاع طبقي مقيت. ذلك أنه مع كل هجوم على الثقافة السائدة يستطيع أصحابها رد الهجوم من خلال تحميل مسؤولية الفشل على سوء التطبيق وعدم الفهم، خاصة من النقاد، وتتهم الأدوات ويتهم الأفراد والمؤسسات، وكل ذلك حتى يبقى جوهر الثقافة محميا بهذه الهالة من الدفاعات. ويستمر الحوار والصراع هكذا ومع كثرة الأخطاء وتراكمها يبدأ الجميع في الشك الجوهري في عمق الثقافة نفسها وقدرتها على قيادة المجتمع، لكن بلا حل أو تصور واضح عن الحل. هنا فقط تكون الظروف مناسبة من أجل الثورة الثقافية حين يأتي العباقرة في لحظات تاريخية خالدة يقدمون الثقافة الجديدة بطريقة خلاقة قادرة على استيعاب كل ما أنتجته الثقافة السابقة وخلق أفق رحب جديد وإجابات عن كل الأسئلة العالقة، عند ذلك يتم سحق الثقافة القديمة بتجفيف منابعها وذلك بكثرة المنشقين عنها حتى تختفي في نهاية المطاف باختفاء من يتحدث عنها أو يؤيدها. إنه امتصاص القوة وتجريدها من خلال نقل المثقفين للإيمان بالجديد الثقافي القادر في عمقه على تجديدهم مع عدم تخليهم عن كل ما استطاعت الثقافة السابقة الإجابة عنه بنجاح (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
وهكذا يأتي ردي على دعاة الثورات ومحركي الفتن، بأن إصلاح الشعوب والحكومات لا يأتي من خلال تمزيقها في طبقات وتيارات وأحزاب ومناطق، بل من خلال العمل الدؤوب والصبر الطويل على توحيدها ثقافيا في برنامج واضح قادر على أن يحدد لها موقعها بين شعوب الأرض ويميزها ويرتقي بها، ولن يقبل ذلك البرنامج من الجميع ما لم يكن قادرا بذاته على الإجابة بوضوح وإقناع عن الأسئلة دون وساطة أو وصاية من أحد. إذا لم يكن من بيننا عباقرة قادرون على خلق ذلك البرنامج، فلا أقل من أن نصبر على بعضنا بعضا وعلى أخطائنا ونستفز ثقافاتنا بتنوعها لخلق إجابات مشتركة من أجل حل المشاكل القائمة، وهذا لن يحدث إلا بمنهج صادق وواعٍ للحوار فيما بيننا وقبول الطرف الآخر كندّ له الحق في إبداء الرأي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي